لغة خاصة
الكتابة اليدوية في مهب العاصفة الرقمية
قد يكون من المبكِّر القول إن لوحات المفاتيح في الأجهزة الرقمية قد قضت على الكتابة اليدوية.
قد يكون من المبكِّر القول إن لوحات المفاتيح في الأجهزة الرقمية قد قضت على الكتابة اليدوية. ولكن المؤكد هو أن الكتابة باليد، وهي واحدة من أعرق المهارات الإنسانية وواحدة من أعمدة الحضارات لأكثر من خمسة آلاف سنة، باتت مهدّدة. أو لنقل إن الاعتماد عليها من بين وسائط الكتابة، وكذلك الاهتمام بتنمية هذه المهارة يشهدان تراجعاً كبيراً مثيراً للقلق على مصيرها.
فهل ستتطوَّر الأمور وفق المنحى الذي تسلكه الكتابة اليدوية حالياً، إلى أن يُقضى عليها نهائياً كما ترى بعض التوقعات المتطرفة في تشاؤمها؟ وهل سيكون ذلك تطوُّراً طبيعياً أم سيشكِّل خسارة حضارية وإنسانية لا تُعوّض؟ أم أن عاصفة الكتابة الرقمية ستهدأ بمرور الوقت وتستعيد الكتابة اليدوية ما تستحقه من عناية، وخاصة في مرحلة تعليمها لصغار السن؟
القافلة حملت هذه القضية إلى ثلاثة اختصاصيين في الشأن التربوي، فتناولت الزميلة مهى قمر الدين أهمية الكتابة اليدوية بشكل عام، وركّزت الدكتورة هدى صباح على المفاعيل التربوية والنفسية الإيجابية للكتابة اليدوية، كما أجاب المشرف على مؤسسة الطفل القارئ فيصل سعيد بن سلمان على بعض الأسئلة حول واقع الحال عربياً.
منذ أن بدأت الكتابة في بلاد ما بين النهرين في الألفية الرابعة قبل الميلاد، مرَّت بتغيُّرات تقنية عديدة، وتنوَّعت الأدوات والوسائط المستخدمة فيها، من المسمار والطين في الألواح السومرية في بلاد الرافدين، إلى الرسم في الهيروغليفية الفرعونية، ثم الأبجدية الفينيقية التي ظهرت في الألفية الأولى قبل الميلاد، ومن اختراع الورق في الصين بعد حوالي ألف عام، إلى أوَّل مجلَّدٍ مخطوط بخطِّ اليد حُزمت أوراقه وجُمعت مع بعضها لتشكِّل كتاباً واحداً، وصولاً إلى اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، وظهور أقلام الحبر في الأربعينيات من القرن العشرين.
للوهلة الأولى، قد تبدو “المعركة” القائمة اليوم بين لوحة المفاتيح الرقمية والأقلام، ليست أكثر من تطوّرٍ في قصّةٍ طويلة، تشكّل اللّوحات الرقمية فيها أداة جديدة أخرى، سننتهي بالتعوّد عليها واعتمادها بشكلٍ دائم.
قمر الدين: “للكتابة اليدوية لغتها الخاصة.. وثمَّة مساعٍ عالمية لإنقاذها من التدهور“
أهميتها المستقلة عن مضمون النص
يقال لنا إن جودة النصّ ومحتواه وما يتضمّنه من أفكار هي الأهمّ. ولكن يُقال أيضاً أن للكتابة اليدوية لغتها الخاصّة التي تعكس شخصية الكاتب وسلوكه ومزاجه، وهي تشبه بصمة الإصبع الخاصّة بكلّ فرد. من هنا جاء الاهتمام بدراسة الكتابة اليدوية أو ما يُسمّى بـ “تفسير الخط”، الذي يهتمّ بتحليل خطّ اليد وطريقة كتابة الحروف. فمثلاً، إذا كانت الحروف مائلة نحو اليسار، فهذا يعني أن الشخص لا يُعبِّر عن مشاعره بشكل جيّد، وإذا كانت مائلة إلى اليمين فيكون أكثر انفتاحاً وقدرةً على التعبير عن مكنوناته، أما إذا كانت الأحرف مستقيمة ولا تميل يُمنةً أو يسرة، فهذا يعني أنّ الشخص يفكّر بقلبه وعقله معاً، أي إنه يستخدم عواطفه إلى جانب المنطق لفهم موقفٍ معيّن.
من ناحية أخرى، يُعدُّ التوقيع الشخصي مسألةً جوهرية في الكتابة اليدوية، إذ تعتقد إيلين نيس، المتخصِّصة في تحليل الخطوط اليدوية، أن التوقيع يعكس مهارات الاتصال لدى الأفراد، فإذا كان التوقيع سهلاً ومقروءاً فهذا يعني أنّ الشخص يعبّر عما يريده بارتياح، بينما يشير التوقيع غير المقروء إلى أن صاحب التوقيع يرغب في إخفاء شخصيته. وبينما كان تفسير الخط مادةً درامية في الدعاوى القضائية طيلة السنوات الماضية، وكانت المحاكم الغربية تستعين بخبراء تحليلٍ للخطوط لكشف جرائم معيّنة، تراجع الاهتمام بهذه المسألة اليوم، بل صار يُعتبر علماً زائفاً.
ربما أن الكتابة اليدوية تعكس الهوّية الشخصية للفرد، وقد تكون الكتابة بواسطة الورقة والقلم عملية موحية بالنسبة للكُتّاب والشعراء. ومن المرجح أنه السبب في حرصهم على البقاء أوفياء للكتابة بخطّ اليد.
وللكتابة اليدوية قيمة كبرى، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بكبار الكُتّاب وبالأعمال الأدبية المهمّة. وربما لهذا السبب بيعت مجموعة الدفاتر التي كان صموئيل بيكيت يكتب عليها روايته الأولى “مورفي” في العام 1935م، بحوالي مليون جنيه إسترليني، وقد امتلأت هذه الدفاتر بتفاصيل الرواية كلّها وما تمّ حذفه وإضافته بين السطور، وكلّ أفكاره المتدفّقة التي كان يخطّها بالقلم.
أما كتابة الرسائل فلها قصّة أخرى. فهي تعكس شخصية كاتبها، أكثر من أي نصّ مكتوب على الآلات الرقمية، من خلال الكلمات المدوّنة فيها وشكل الرسالة وغلافها وطريقة التوقيع عليها، كما تقدّم لنا صورةً واضحةً عن مشاعر الكاتب وأساليب مخاطباته الخاصة، فضلاً عن المعلومات التي لا توفرها أي وسيلة كتابية أخرى.
الحال عربياً: الأقلام لا تزال مستخدمة، ولكن..
يقول المشرف على مؤسسة الطفل القارئ فيصل سعيد بن سلمان: “إن الأطفال في العالم العربي لم ينفصلوا كلية عن الكتابة اليدوية واستخدام الأقلام حتى اليوم. بل ما زال أغلب الآباء والأمهات يحرصون على توفير الأقلام الخشبية والألوان لأطفالهم منذ مراحل مبكرة. صحيح أنها ليست بمعزل عن الأجهزة الإلكترونية وغيرها من الوسائل التقنية، وصحيح أن طبيعة بيوتنا اليوم ومقتنيات منازلنا تحدّ من أن يتعامل معها الطفل بحرية وسهولة ليعيش طفولته السابحة في الخيال والمتحررة من القيود، إلا أن الأقلام ما زالت موجودة ومستخدمة”.
ويضيف: “إن التعليم في أغلب البلدان العربية إلى ما قبل جائحة كورونا، كان معتمداً بشكل أساسي، أو حتى كلّي على الكتابة اليدوية والطرق التقليدية بعيداً عن الرقمنة والأجهزة الإلكترونية. ومع الجائحة، فإن أغلب البلدان العربية، مثل معظم دول العالم، وعلى اختلاف قدراتها وتباين جهوزياتها اضطرت للجوء إلى الأمور التقنية لضمان استمرار العملية التعليمية، وكي لا ينقطع التلاميذ الصغار وحتى الطلاب الجامعيين عن التعلّم. وهنا ابتعد الأطفال كثيراً عن استخدام أيديهم في التعامل مع القلم والورقة والألوان، ليحل محل ذلك النقر على لوحات المفاتيح وشاشات اللمس”.
وجواباً عن سؤال حول ما إذا كانت الغلبة محسومة للكتابة الإلكترونية كخلف للكتابة اليدوية، قال: أحسب أننا أمام أمرين لا ينبغي أن نتعامل معهما على أنهما نقيضان لا يجتمعان، فكلا الأمرين مهم. فالكتابة بخط اليد تساعد على تذكر المعلومات بشكل أفضل، وتسهم في رفع معدَّلات الذكاء لدى الأطفال، أفضل من الكتابة على الكمبيوتر أو الألواح الإلكترونية، كما دلَّت عليه النتائج في أحدث الدراسات التي تناولت طرق التعليم. كما أن الكتابة باليد تساعد على تحسين وتطوير المهارات الحركية الدقيقة لدى الأطفال الصغار.
أما بالنسبة للكتابة والتعلُّم الرقمي فحياتنا اليوم تعتمد كلياً على الأمور التقنية، ومن غير الطبيعي أن ينشأ أطفالنا منقطعي الصلة تماماً عنها، ولا يمارسونها أو يتعلمون مهاراتها. لا بد من تحقيق التوازن بين تطوير مهارة الكتابة اليدوية واستخدام الأجهزة الإلكترونية.
وحول من هو القادر على تحقيق هذا التوازن، أو المخوّل بالقيام به، يقول: “هنا يأتي دور الأسرة في تحقيق هذا التوازن، وسد مثل هذه الفجوة والحرص على استمرار المهارات اليدوية في حياة أطفالهم وهم ما زالوا في مقتبل العمر. ينبغي أن ننشر الوعي بأهمية مثل هذه التنشئة في صفوف الأهالي، خاصة الجدد منهم، وأن نوضح الفائدة الكبرى التي ستعود على الأطفال عند اعتماد الكتابة باليد، ونؤجل ولو قليلًا الاعتماد الكلي على الأجهزة الإلكترونية“.