ما الذي تحقق في الرحلة إلى محطة الفضاء الدولية؟
السعودية في مضمار السباق نحو الفضاء
المصدر: مجلة القافلة، بقلم أمين نجيب.
من أجمل الصور التي رأيناها هذا العام ابتسامات رائدَي الفضاء السعوديَين ريانة برناوي وعلي القرني على متن محطة الفضاء الدولية، وأيضًا، صورة التفاؤل بالمستقبل على وجوه آلاف الطلاب السعوديين، الذين شاركوا بشغف في التجارب العلمية معهما. فعلى مدى عشرة أيام حافلة، شاركت أطرافٌ عديدة بحماس في فعاليات الرحلة العلمية السعودية إلى محطة الفضاء الدولية: الرائدان، والطلاب، والعلماء، وجمهور واسعٌ. وأسهم هذا الحدث العلمي في إبراز الصورة الجديدة والحقيقية للشباب العربي والمرأة العربية في عصر العلم والاستكشاف وارتياد الفضاء.
إنها بالفعل رحلة تاريخية ذات أبعاد كثيرة، كانت حلمًا لم نتوقع أن يصبح حقيقة، كما قالت برناوي عند وصولها إلى محطة الفضاء الدولية. فالحال أن النهضة العلمية التي تشهدها المملكة أتاحت تحقيق مشاريع ذات أبعاد عالمية كانت تُعَد، قبل الإعلان عن رؤية السعودية 2030، من الأحلام. وثمة إنجازات عديدة سبقت ومهدت لهذا النجاح، إذ لم يكن ممكنًا تحقيق ذلك من دون بنية معرفية علمية واقتصادية وثقافية متقدمة.
الرحلة وأهدافها
انطلق صاروخ “فالكون 9” وعلى متنه المركبة “دراجن” التي تحمل الرائدَين السعوديين واثنين آخرين، كما هو مخطط يوم 22 مايو 2023م من قاعدة “كيب كانيفرال” في ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية. وبعد 18 ساعة من انطلاقها التحق الرواد بزملائهم في محطة الفضاء الدولية عند المساء في 23 مايو. ثمَّ عادوا إلى الأرض بنجاح يوم 31 مايو.
وكانت “وكالة الفضاء السعودية” قد أعلنت في 12 فبراير 2023م أنها سترسل أول رائدة فضاء سعودية وعربية وأول رائد فضاء سعودي إلى محطة الفضاء الدولية خلال الربع الثاني من عام 2023م. كان ذلك بهدف ”تمكين القدرات الوطنية في رحلات الفضاء البشرية لإجراء تجارب علمية وبحثية رائدة في بيئة الجاذبية الصغرى، تسهم نتائجها في تعزيز مكانة المملكة عالميًا في مجال استكشاف الفضاء، وإبراز دور مراكز الأبحاث السعودية وتأكيد جهودها في إحداث تأثير علمي في هذا المجال، وإثبات قدرة المملكة على إجراء أبحاثها الخاصة بشكل مستقل”.
وأضافت الوكالة أن تلك الأبحاث ستسهم في توسعة نطاق الأبحاث الصحية إلى جانب حماية كوكب الأرض، عبر تطبيق تجارب علمية يُنفَّذ عدد منها لأول مرة في العالم على متن المحطة الفضائية الدولية.
وقالت المهندسة السعودية مشاعل الشميمري، مستشارة وكالة الفضاء السعودية، ونائبة رئيس الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية: “أهدافنا هي إفادة البشرية جمعاء من خلال العلم. ونأمل أن تلهم هذه المهمة الفتيات من خلفيات مختلفة، من أجل تطوير التجربة الإنسانية”.
ويأمل القيمون على هذا المشروع تفعيل الابتكارات العلمية على مستوى علوم الفضاء لتنعكس إيجابًا على مستقبل الصناعة والاقتصاد، وتحفيز الطلاب لزيادة الاهتمام بمجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات.
لماذا الاختبارات في الفضاء؟
تخضع جميع التجارب التي تُجرى على الأرض لقوة معينة من الجاذبية، وعند تغيرها تتغير أشياء كثيرة فتتغير النتائج. ولذا، فالاختبارات العلمية في الفضاء، خاصة في المدار منخفض الجاذبية، تفتح فرصًا لعرض الأنظمة بطريقة جديدة تمامًا غير ممكنة على الأرض. وهكذا تنفتح آفاق غير محدودة أمام العلم والبحث. وقد أثبتت بالفعل الاختبارات العلمية المتنوعة التي أجريت خلال 20 عامًا على متن محطة الفضاء الدولية أن ليس بالإمكان إجراؤها في أي مكان آخر. وحققت هذه الاختبارات عددًا كبيرًا من الاكتشافات والفرص والاختراقات العلمية التاريخية.
إضافة إلى ذلك، فإن البيانات حول كيفية تفاعل الكائنات الحية المختلفة مع بيئة الجاذبية الصغرى، والطرق التي تتغير بها الوظائف البيولوجية المختلفة في غياب الجاذبية، تزيد من فهمنا للكائن الحي عمومًا. فعلى سبيل المثال، يمكننا فهم آليات تطور السرطان في إطار زمني قصير من خلال إجراء هذه التجارب في مدار أرضي منخفض الجاذبية. إذ وجد الباحثون أن الخلايا الجذعية السرطانية تتولد بسهولة أكبر في هذا المدار وتصبح مقاومة للعلاجات القياسية. وهذا يسهل فهمنا لكيفية تطوير إستراتيجيات جديدة لتثبيطها.
كما تساعد الجاذبية المنخفضة في تقدم أبحاث علم المواد، لأنها تغير مسار التفاعلات ابتداءً من نمو البلورات إلى خلط السوائل؛ وكذلك الفصل بين الغازات والسوائل، ونقل الحرارة، والتصلب والاحتراق.
وأخيرًا، تسهم الظروف المتوفرة في المحطة في البحث الذي يؤدي إلى تطوير عمليات تصنيع جديدة ومنتجات محسنة. وبذلك تعمل المحطة أيضًا منصةً لاكتشاف تكنولوجيا جديدة. فبعض الأجهزة التي بين أيدينا، أو العقاقير التي نتناولها، أو المعرفة الصحية لدى أطبائنا، أو المياه النظيفة التي نشربها، وغيرها الكثير، قد استفادت من نتائج هذه الاختبارات.
مهمة تربوية
من الأهداف الرئيسة لهذه الرحلة تحفيز جيل جديد من القادة والمبتكرين والعلماء السعوديين لتعزيز عملية النهوض التي تشهدها المملكة، وتحقيق كامل أهداف رؤية السعودية 2030 ببناء الكوادر البشرية اللازمة. ولهذا الغرض، تضمن برنامج الرحلة ثلاث تجارب تعليمية تفاعلية رائدة من 27 إلى 29 مايو، شارك فيها من الأرض أكثر من تسعة آلاف طالبة وطالب من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية.
وشهدت التجارب الثلاث تفاعلًا مباشرًا بين الطلاب ورائدي الفضاء من خلال التواصل المباشر بين الجانبين، وأتيحت الفرصة أمام الطلاب لتوجيه أسئلتهم فيما يتعلق بالتجارب التعليمية، ومقارنة نتائج تجاربهم في الأرض مع تلك التي أجراها طاقم الفضاء السعودي على متن محطة الفضاء الدولية.
وقد تابع التجارب وتنفيذها بالتزامن 47 موقعًا ومدرسة، وذلك بالتعاون مع وزارة التعليم، ومؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع “موهبة”، ومدارس الرياض، ومدارس مسك، وبإشراف وكالة الفضاء السعودية. وركزت التجارب على انتشار الألوان السائلة بالتركيز على ميكانيكا السوائل، وتجربة الطائرات الورقية الفضائية بالتركيز على الديناميكا الهوائية، وتجربة أنماط انتقال الحرارة.
تجربة انتشار الألوان
استهدفت هذه التجربة طلاب الصفوف العليا من المرحلة الابتدائية، الذين تفاعلوا مباشرة مع رائدي الفضاء، حيث ركزت التجربة على عمل ”ميكانيكا السوائل والغازات” بتحريك السوائل الملونة في الفضاء. وأشار الرائدان للطلاب للقيام بالتجربة نفسها على الأرض وملاحظة تأثير انخفاض الجاذبية على سرعة انتشار الألوان وشكلها، وكيف تختلف عما شاهدوه للتو من محطة الفضاء الدولية.
وشرحت برناوي كيف أن ترابط الجزيئات في بيئة الجاذبية الصغرى يختلف عنه في بيئة الأرض، فتنتشر السوائل في الفضاء بشكل أبطأ منها على الأرض.
تجربة الطائرات الورقية
استهدفت التجربة الثانية طلاب المرحلة المتوسطة الذين استمعوا إلى شرح عملي لكيفية تأثير الجاذبية الصغرى في سلوك الطائرات الورقية، وكيف تؤثر هذه الجاذبية في “الديناميكا الهوائية”، التي تفسر السلوك الفيزيائي للأجسام عندما تطير في الهواء والقوى المؤثرة فيها. وقد استعمل الرائدان ثلاثة أنواع من الطائرات الورقية لشرح أهمية التصميم في عملها. كما شرح الرائدان كيف يختلف تصميم الصواريخ المرسلة إلى الفضاء عن هذه الطائرات الورقية؛ لأنها يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف المختلفة ما بين الأرض والفضاء. فعمل الديناميكا الهوائية يتوقف حيث لا وجود للهواء في الفضاء، فيُستعان بالهواء داخل الصاروخ. وشدد الرائدان على أهمية التصميم الهندسي وكيف يؤثر على عمل الطائرات والصواريخ حسب وظيفة كل منها.
تجربة انتشار الحرارة
استهدفت التجربة الثالثة والأخيرة الطلاب الثانويين، الذين تفاعلوا مع انتشار الحرارة التي تُعنى بتبادل الطاقة بين المواد الصلبة أو السائلة أو الغازية نتيجة اختلاف درجة الحرارة في أي واحدة منها أو جميعها. وهذا الانتشار يختلف من ظرف لآخر، ويُدرس ضمن فرع الهندسة الحرارية التي تدرس توليد الطاقة الحرارية.
وقد شارك 2868 طالبًا وطالبة في إجراء التجربة الثالثة والأخيرة حول أنماط انتقال الحرارة. وتفاعلوا مع مراحل تجربة مستشعر درجة الحرارة لإظهار تغير لون المادة والتغير الزمني لانتقال الحرارة في الفراغ، والفارق في النتائج بين تجربتهم على الأرض وبين النتائج في الفضاء. وكان الهدف من ذلك تعريف الطلبة أن الإشعاع هو الشكل الوحيد لنقل الحرارة في الفضاء، وأن “الحمل الحراري” يعمل بشكل مختلف في هذه البيئة (الحمل الحراري: أي انتقال المادة بفعل تغير حرارتها، مثل وعاء ماء على النار، عندما يسخن القسم السفلي تقل كثافته فيرتفع إلى أعلى وينزل القسم العلوي إلى أسفل، فيحصل الغليان). وقد أوضحت النتائج على المحطة الفضائية أن الحرارة تنتقل بسرعة أقل من انتقالها على الأرض.
الأبحاث السعودية في الفضاء
بالإضافة إلى ما سبق، أجرى رائدا الفضاء أيضًا خلال رحلتهما 11 تجربة علمية مهمة ورائدة في بيئة الجاذبية الصغرى وعالية الإشعاع، استهدفت القيام بأبحاث بشرية وأخرى متصلة بعلوم الخلايا، وتجارب الاستمطار الصناعي، وذلك بإشراف مراجع بحثية وعلمية على الأرض، وبمشاركة الهيئة السعودية للفضاء والتنسيق معها.
فقد أشرف مركز الأبحاث بمستشفى الملك فيصل التخصصي وفريق العلماء التابع له برئاسة الدكتور خالد أبو خبر، ومشاركة الدكتورة وجدان الأحمدي والدكتور إدوارد حتي، على تجربة علوم الخلايا، لمعرفة كيفية تغير الاستجابة الالتهابية في الفضاء، خصوصًا التغيرات الحاصلة على عمر الحمض النووي الريبوزي المرسال، الذي يُعد جزءًا أساسًا في إنتاج البروتينات المؤدية للالتهاب. كما استُخدم نموذج خلايا مناعية لمحاكاة استجابة الالتهاب للعلاج الدوائي في الجاذبية الصغرى في الفضاء.
من جانبها، قادت شركة “سديم” للبحث والتطوير بقيادة الدكتور بدر شيرة، وبالتعاون مع الهيئة السعودية للفضاء، ست تجارب في مجال الأبحاث البشرية، لمعرفة التكيف البشري في رحلات الفضاء ومدى أمانها على الدماغ، وفهم التأثيرات التي تطرأ على صحة الإنسان أثناءها. واختُبرت وظائف الأعضاء والأجهزة الحيوية للإنسان في الجاذبية الصغرى باستخدام أجهزة حديثة بعضها يُستخدم لأول مرة في الفضاء، مثل قياس تدفق الدم إلى الدماغ، وتقييم الضغط داخل الجمجمة، والنشاط الكهربائي للدماغ، ومراقبة التغيرات في العصب البصري؛ مما يساعد في جعل الرحلات الفضائية أكثر أمانًا للإنسان في المستقبل.
استمطار السحب
وتولّت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، برئاسة الدكتور أشرف فرحات، الإشراف على تجربة تتعلق بعمليات استمطار السحب في الجاذبية الصغرى. وهي عبارة عن تقنية لتعديل الطقس، تعمل على تحسين قدرة السحابة على إنتاج المطر أو الثلج، عن طريق إدخال نوى جليدية صغيرة تُسمى “البذور السحابية” في أنواع معينة من السحب. وهذه العملية تُستخدم في المملكة والعديد من الدول لزيادة معدلات هطول الأمطار.
وفي هذه التجربة، جرى فحص البذور السحابية لأول مرة في الفضاء تحت ظروف الجاذبية الصغرى، وتم خلط الهواء الرطب وبلورات يوديد الفضة في غرفة تفاعل لفحص إمكانية بدء عملية الاستمطار.
كما هدفت هذه التجربة إلى مساعدة العلماء والباحثين على ابتكار طرق جديدة لتوفير الظروف الملائمة للبشر، بما في ذلك عمل الأمطار الصناعية، التي ترتبط مستقبلًا بالعيش في مستعمرات فضائية على سطح القمر والمريخ، وكذلك لتحسين فهم الباحثين لتقنية الاستمطار مما يسهم في تطوير هذه التقنية عما هو معمول به حاليًا.
بإيجاز، كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط قبل نحو 2400 سنة: “على الإنسان أن يرتفع فوق الأرض، إلى قمة الجو وما بعده، لأنه عندها فقط يستطيع أن يفهم العالم الذي يعيش فيه تمامًا".
يمكن تصفح مجلة القافلة عبر هذا الرابط.