ارتبط اسم " قراقوش " وهو اسم والي عكّا بهاء الدين قراقوش الذي حكمها في القرن الثاني عشر الميلادي، لدى غالبية الناس على مر الأزمنة التالية لفترة حكمه بالأحكام العجيبة، وهي أحكام تناقلها الناس وزاد عليها البعض منهم من النوادر والطرائف، حتى أصبح البعض حين يرى تصرفًا ظالمًا أو غريبًا يطلق عليه حكم قراقوش.
وقد صورته السينما المصرية في فلم "الناصر صلاح الدين" أنه والي عكا الخائن الذي ألقى السلاح في البئر ليسمح للصليبيين بدخول عكا بسهولة! ويظهره المخرج بعدها وهو يرحب بملوك الصليبيين وهم يضحكون ويتندرون بسهولة استيلائهم على عكا بفضل "خيانة واليها".
والحقيقة التي أنكرها عن قصد بعض كتبة الأخبار والتاريخ أن قراقوش أو والي عكا راح ضحية "الأدب المُفْتَرِي"، فقراقوش له صورتان، صورة حقيقية صادقة، وأخرى وضعها له عدو من منافسيه، والعجيب أن الصورة الحقيقية عن الرجل طواها النسيان، وانتشرت الصورة المزيفة للرجل، فلا يُذْكَرُ قراقوش إلا وذكرت هذه الروايات الكاذبة التي نسبت إليه افتراءً وظلمًا.
لم يكن قراقوش خائنًا أبدًا، بل على العكس فقد كان من قادة جيش صلاح الدين الأيوبي المقربين منه، وقد كان شجاعًا ومقدامًا وأمينًا إلى أبعد حد، ومهندسًا حربيًا منقطع النظير. وكان أعجوبة في أمانته، فحينما أحس الفاطميون بقرب زوال ملكهم، شرعوا في تخزين النفائس من الكنوز والدرر في قصر الخلافة الفاطمية إلى أن صار مدينة صغيرة من النفائس والكنوز. وبعد سقوط ملكهم عَهِدَ إليه صلاح الدين بالتحفظ على القصر وكل ما فيه من كنوز، فلم يفتنه المال، ولم يأخذ لنفسه شيئًا، ولم يترك أحدًا يأخذ شيئًا.
وهو الذي أنشأ أشهر القلاع الحربية، مثل قلعة صلاح الدين بالقاهرة، وبنى سور القاهرة أو ما يطلق عليه اليوم سور مجرى العيون بالقاهرة القديمة. ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين على الحكم، وكادت تنشب بينهم الحروب، ما أصلح بينهم ولا لملم شتاتهم إلا قراقوش. فمن الذي شوهه وغير صورته إلى النقيض؟
إنها جريمة الأدب والكتابة يا سادة، لقد أساء "ابن مماته" إلى قراقوش وألبسه وجهًا غير وجهه الحقيقي، وهو كاتب بارع وأديب طويل اللسان، كان موظفًا في ديوان صلاح الدين، وكان رجال الدولة يخشونه ويتملقونه اتقاءً شره، ولكن قراقوش وهو الرجل العسكري الذي لا يعرف النفاق، لم يعبأ به، ولم يخش شره، ولم يدر أن سِنَّ القلم أقوى من سنان الرمح، فطعنة القلم تترك جُرْحًا لا يُشْفَى، ولا يُرِيحُ من ألمه الموت، فألَّف ابن مماته، لبراعته في الكتابة، كتابًا صغيرًا سماه "الفافوش في أحكام قراقوش" ووضع فيه حكايات وافتراءات نسبها إليه، وصدقها الناس ونسوا التاريخ، ومات قراقوش الحقيقي وعاش قراقوش الفافوش، الذي زيفه وافترى عليه ابن مماته، وهذا هو سلطان الأدب، فكم من قراء انخدعوا بما قرأوا، وكم من ناشري أخبار ما تثبتوا منها. فالتريث واجب، وتحري الصدق مطلب، وصدق الشاعر حينما قال:
وما من كاتبٍ إلا سَيفْنَى ويُبْقِي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غَيرَ شيء يَسُرُّك في القيامة أن تراه
رأفت الكيلاني، إدارة الإعلام والتواصل التنفيذي.
يرحب أرامكو لايف بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها. cw@exchange.aramco.com.sa