عاد من أرض الحرمين الشريفين بعد أن أدى مناسك العمرة مع زوجته، فذهبت للسلام عليه، والحقيقة أنني أردتُ أن أسمع من هذا الصديق ما تركته زيارته لمكة المكرمة من أثر في نفسه. كانت زيارته الأولى للحرم لكنه ما فتئ يذكر «أبو سلطان» ويدعو له ويقول: «هذا فارس من فرسان الزمن الماضي، اللهم بارك فيه وجازه خيرًا.. رجل أصيل فعلًا.» وكلما سألته عن رحلته أعادني لأبي سلطان.
قال: عندما صعدنا الحافلة في عمّان، ومن شدة شوقي لرؤيتها ولمسها بكفوف يديّ والطواف بها، كانت صورة الكعبة كأنها أمامي. وكانت سعادتي لا توصف وأنا أصعد الحافلة، فهذه هي الزيارة الأولى وأنا في الستين من عمري. وعندما عبرت الحدود وشاهدت ختم المملكة العربية السعودية على جواز سفري، شعرت بانتعاش يسري في دمي فرحًا وتوقًا لرؤية الحرمين الشريفين. استغرقت وقفة الحدود للتسجيل والتفتيش وقتًا لا بأس به، وعندما مشينا بدأ الليل يرخي سدوله، ثم مضينا على بركة الله. لا أستطيع النوم في الحافلة، ولأسلي نفسي، أقرأ اللافتات بأسماء المدن والقرى، فأبتسم أحيانًا لأسماء قرى غريبة. وأوشكنا أن نصل مدينة «طبرجل» في الحدود الشمالية عندما خارت قوى الحافلة بالكامل، وأبت أن تتحرك وسط صحراء موحشة وليلة باردة. نال السائق شرف المحاولة بما تيسّر لديه من خبرة وأدوات أن يصلح الحافلة لكن دون جدوى. اضطررنا إلى الترجل من الحافلة، والوقوف على جانب الطريق، ندعو الله أن يمن علينا بالسلامة في هذه الصحراء المظلمة الموحشة، وهذه الغربة والوعثاء! وقفنا على جانب الطريق 35 رجلًا وامرأة، نرتجف من البرد، وربما من الخوف، لكننا كالأشباح، بعد أن لفّ أغلبنا البطانية على جسده.
مضت من الوقت قرابة الساعة وازداد شعوري بالبرد والخوف، ولا أدري من أي شيء خفت؟ لكنها مجموعة من الخزعبلات والهلوسات ربّما أقلها الموت عطشًا!
وفجأة؛ ظهرت أنوار مركبة من بعيد. لا أدري لماذا شعرت بالأمان رغم أن المعطيات تقول إننا في الصحراء، وفي ليل دامس، وفوق هذا كلّه 35 نفسًا. لم أنوِ أن أشير إليه بيدي، ولم يفعلها أحد، فلا سبيل لوقوف أي مركبة للمساعدة في هذه الساعة وهذا المكان. لكن عكس المتوقع، فقد شاهدنا السيارة تضيء إشارة الاصطفاف المتقطعة فيها إلى يمين الطريق. رأيت ذلك الوجه الذي لن أنساه ما حييت لأول مرة، وبعد السلام والتحية، قال: كيف يمكنني مساعدتكم؟ قلت: بعد أن خيم الليل، فلا سبيل لإصلاح المركبة. فردّ عليّ، دون تردد، مقسمًا: «والله ما أخليكم!»
ثم قال: لكم على المملكة واجب، وأنتم ضيوفنا الليلة، وأتوسل إليكم ألا تحرموني هذه الفرصة. كان رجلًا كريمًا عتيقًا، لذلك من اللؤم أن يُردّ أمثاله. فرح لقبولنا دعوته، واتصل فورًا بزوجته وطلب منها أن تفتح مجلس النساء، ومجلس الرجال. لم أسمع زوجته تحاوره في أمر الضيوف وعددهم، ومن أين هم، وكيف سيستضيفهم في هذه الساعة؟ فنحن 35 رجلًا وامرأة غرباء، سنقتحم عليه بيته من غير سابق إنذار. لا أدري من أين جاء هذا الرجل بكل هذا الحماس وهذه الروح!
لم يخبرنا اسم قبيلته ولم يلتقط صورة لنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما شكرناه على كرمه وفروسيته غير المسبوقة، قال: أنا أقل أهل هذه البلدة كرمًا، كل الناس هنا أكرم مني! وأنا لم أفعل شيئًا يستحق هذا الشكر. أنساني أبو سلطان الحديث عن العمرة في زيارتي الأولى، ويبدو أن الحديث عنه سيظل حاضرًا لسنين قادمة.
قد يكون أبو سلطان من حرس الحدود أو معلمًا أو تاجرًا أو موظفًا صغيرًا، لكنه في ليلة واحدة أصبح سفير وطن فوق العادة، وبموقفه هذا جسّد نموذجًا مشرقًا للمملكة! أبا سلطان الذي لا أعرفه، يا ابن شمال المملكة ...شكرًا جزيلًا لك!
محمد العداربة، وحدة المطبوعات في إدارة المحتوى وقنوات الاتصال.
يرحب أرامكو لايف بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها. cw@exchange.aramco.com.sa