إن مناسبة استدعاء "يوم التأسيس" للمملكة العربية السعودية، وتذكر ماضيه وأمجاده، والاعتزاز باللحظات الأولى لتأسيس هذا الكيان السياسي والاقتصادي، ولم شمل الأفراد والقبائل في الجزيرة العربية تحت لواء دولة حديثة تحت راية واحدة، لهو من مفاخرنا الوطنية، ومكتسباتنا العظيمة في هذا الوطن الكبير.
المملكة والامتداد الثقافي للفن والتراث
وتعد المملكة العربية السعودية الحديثة هي وريثة التراث الثقافي العريق للجزيرة العربية، وهي قائدة المسارات الثقافية والاقتصادية في المنطقة، ومنذ عهودها القديمة والفنون الشعبية والرقصات والحِرف في ديمومة لا تتوقف، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع الأفراح والمواسم التي تبرز العادات والتقاليد الاجتماعية والشعبية المختلفة والمتنوعة بتنوع البيئات الجغرافية في المملكة العربية السعودية.
وقد حفظت بعض النقوش الصخرية في آثار الجزيرة العربية في حائل، وتيماء، وآبار حِمى في نجران، منذ آلاف السنين، نقوشًا وتصاوير لبعض العرضات والفنون الأدائية والفنون القصصية الأسطورية، وهذا يدل على عراقة وأصالة الفنون الشعبية في الجزيرة العربية، وهي مصدر فخر ومعرفة وثقافة في المملكة العربية السعودية تاريخًا وإبداعًا ثقافيًا لانهاية له. وهذا هو السياق الثقافي والأنثروبولوجي العام لتلك الفنون القديمة التي لا زلنا نتلقاها ونمارسها ونعيدها فنًا وإبداعًا وتعليمًا في حياتنا الثقافية المعاصرة.
الفنون الشعبية توثيق وفخر
أما ارتباط الفنون بتواريخ وأحداث مفصلية في فترة تأسيس المملكة العربية السعودية فهذا مجال بحث طويل وواسع. ولقد أشار الشيخ العلامة عبد الله بن محمد بن خميس إلى هذا النوع من الأدب الشعبي وارتباطه بفتوحات وذكريات أمجاد الدولة السعودية في كتابه: "أهازيج الحرب أو شعر العرضة. وذكر عددًا من تلك الشواهد والمفاخر، وما قاله الشعراء في العرضات النجدية محفزين ومشجعين ومفتخرين ببطولة حكام وملوك آل سعود. وذكر أن كل قصيدة لها مناسبة حربية تعيد الذكرى، وتتحدث عن أمجاد هذه الأمة وأيامها مع أعدائها، حتى قام هذا الكيان، واستتب هذا الأمن وارتاحت الجزيرة العربية، بحمد الله، مما كانت عليه قرونًا بعد قرون.
لقد كانت الفنون الشعبية مرتبطة باحتفالات الدولة السعودية بكل مراحلها السابقة، وكانت العرضات والفنون تقام برعاية الملوك والأمراء، وكانت مضرب مثل في الأداء الحركي الذي يرمز للشجاعة والبطولة والنخوة العربية والقصص الملحمية الخالدة. والذين يشاهدون ملوك وأمراء المملكة العربية السعودية، والمواطنين الذين يلعبون الألعاب الشعبية في العرضات؛ فإنما هم يرونهم يلعبون لعبًا حركيًا متناغمًا مع الإيقاعات وحماسة الشعراء ظاهريًا، وليس هذا فقط، بل إن اللعب الحركي له ما وراءه من استعادة القصص وأمجاد الفخر التي أسسها الملوك الأوائل، يرحمهم الله، وهذا الارتباط ما بين الحركي والقصصي البطولي هو المعزز لبقاء وخلود هذه الفنون والرقصات الشعبية، بما يدل دلالة واضحة على كونها هوية ثقافية وطنية يعتز بها كافة أفراد المجتمع السعودي حكامًا ومواطنين على السواء، وهذا قليل إن لم يكن نادرًا أو معدومًا في دول أخرى من دول العالم.
نماذج لشعراء الملوك
ولعلنا نتطرق لأشهر شعراء العرضة في المملكة العربية السعودية والذين ارتبطت قصائدهم وشيلاتهم بملوك السعودية وخصوصًا الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، يرحمه الله، وهم: محمد العوني، وفهد بن دحيّم، وعبد الرحمن البواردي، ومحمد القاضي، وبن سبيّل، وغيرهم كثير. وقد شكلت شيلاتهم وقصائدهم الشعرية ذاكرةً حيةً لتاريخ ومجد المملكة من خلال أدائها بالفنون والرقصات الشعبية الرائعة.
ومما رواه الشيخ الأديب، عبد الله بن خميس، في كتابه: أهازيج الحرب أو شعر العرضة: "غاب الشاعر فهيد بن دحيّم بسبب مرضه عن تجمع يحضره الملك عبد العزيز، يرحمه الله، فسأل عنه الملك وتفقده وقال: ائتوني به ولو محمولًا، فجاء يغالب مرضه ويهز سيفه وأنشد:
نجد شامت لبوتركي واخذها شيخنا واخمرت عُشَّاقَها عِقْب لطم خشومها
فاهتز الملك عبدالعزيز لها، وتناول سيفه وجعل يتثنى بين جنده مفتخرًا مزهوًا وزاد الجند حماسةً وعرامةً واستجابةً وفداءً."
الأداء الحركي للفنون الشعبية
إن سياق الحديث عن الرقصات والفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية يقودنا للمكون الثقافي والأدائي لهذه الفنون، فهي فنون تقليدية قديمة جدًا، وليس لها مؤلف معروف، وحافظت عليها المجتمعات المحلية بالتوارث ونقل الأداء الحركي والفني من خلال الممارسة والتقليد جيلًا بعد جيل، كما أن لتلك الفنون شعراء ورواة مختصون. وكانت لهم تقاليد خاصة في نقل تلك الفنون وهي تقاليد الرواية والأداء الشفاهي -كعادة العرب القدامى في الجزيرة العربية- بمعنى أن الشعر قائم على الارتجال في اللحظة، وبحسب الموقف، وأن الأدوات والإيقاعات (الطيران والطبول) كلها تقليدية مأخوذة من البيئة المحلية، ومصنوعة من أدوات معروفة كأخشاب الأثل وجلود الغنم والإبل، وأما ألحانها فهي ألحان شجية تتنوع على عدة مقامات شرقية كالرست والبيات والسيكاه والهزام والصبا وغيرها.
الفنون والرقصات الشعبية في المملكة كثيرة ومتعددة، وبالإمكان أن نضعها على هذا التصنيف لنتصور مدى تعددها وتنوعها وشموليتها الجغرافية وأبعادها الحركة ودلالاتها الاجتماعية. وهذه أمثلة منها:
• فنون الفخر والبطولة: العرضة النجدية، والهيدة الحساوية، والدحة الشمالية، والخطوة الجنوبية.
• فنون الحصاد والزراعة: دق الحب، والناقوز، والمزهوم، والمواويل والزهيريات.
• فنون الاحتفالات الاجتماعية: العرضة، والخمّاري، والدزة، والعاشوري، والسامري، و الدلع.
• الفنون البحرية: لفجري والنّهمة والدانات والينبعاوي والرفيحي وعزف السمسمية.
• الفنون الجبلية: المجسات المكية، ويماني الكف، والمجارير، ولقْصَيمي، وفن العشي، والخطوة. والمسحباني. والدمة.
• الفنون البدوية: الحداء، والهجيني، والخبيتي، وعزف الربابة.
د. سمير الضامر، باحث في الدراسات الثقافية، وخبير الفنون الأدائية.
مصدر الصور: وزارة الثقافة.