«سأصير كاتبة» هكذا حددت طفلة التاسعة هويتها الوجودية، ونطقت باللاوعي إجابةً عن سؤال المعلمة للطالبات. آنذاك لم أكن أدرك تداعيات هذه الأمنية.. اخترتها بالرغم من أني أتقن تأدية المقطوعات المُلحنة، فيما لم يراودني حُلم المغنية أو المُنشدة أو الموسيقية. فلِمَ اخترت الكتابة وجهة لي؟
ربما لأثبت هوية المرأة المفكرة بتجرد إنساني، ففي عام ٢٠١٤م تأثرت بمقولة «النساء عاطفيات» الشائعة آنذاك، إشارة إلى انحياز المرأة إلى العاطفة، وربما تلميحًا من البعض إلى التشكيك في نجاحها إداريًا وفكريًا. فبالرغم من جماليات العاطفة وضرورتها للجنسين، إلا أن نبرة الانتقاص والسلبية من البعض آنذاك أثرت في نفسي فأردت القول: إن المرأة إنسانٌ قادرٌ على التوازن والفصل بين الحالة الفكرية والأدبية الشاعرية بحسب المناسبة، فكتبت المقال أولًا.
لزراعة الزمن، الذي يشكل هاجسًا بالنسبة لي، فأستثمر اللحظة الراهنة بالقراءة أو الكتابة، لأرضى لو أصابني مرض أو توقفت قدرتي على الضرب على لوحة المفاتيح فجأة، فأستعمل هذه الحواس والقدرات لأشكر الخالق بذات النعمة.
اعترافًا بطبيعية الإنسان وقدرته على التشكل، أزرع من لحظاتي المتنوعة بساتينَ بالكتابة الشعرية والسردية، كما أعتز بلحظات الحياد والاستقرار العاطفي والهدوء الانفعالي، ما يحفزني على الانفتاح الفكري وكتابة المقالات. أما إنسانيتي في طرح القضايا الكبرى كالموت وانتهاكات الطفولة وانعكاساتها، فأدخرها للسرد الروائي والقصصي.
ولبناء علاقة مع شريك لا يبتعد، فالأقدار تجري، ومثلي تخاف الوحدة والوحشة ويرعبها الفراغ، أبني في نشوة شبابي صداقاتٍ متينة مع الكتب والأقلام، لتغنيني إذا شح الصديق وانشغل الأبناء بحياتهم وغاب الرفيق بقدرٍ ما. أكتب لأجهز لي بيتًا دافئًا وأنيسًا يجدد معي اللحظات بمغامرة فكرية جديدة..
لملء حياتي بالمعنى والقيمة، فالكتابة تتطلب استمرارية القراءة مما يضفي على الحياة التجديد والإبداع. الروتينية تؤذيني والاعتيادية والفراغ يقتلاني، أما العمل الثقافي فيشبه طبيعتي التي تميل للتوازن بين الاندماج مع الناس والعزلة عنهم. لهذا لم أخترْ أن أتحدث يوميًا على حسابات التواصل الاجتماعي برغم قدراتي ومهاراتي في التحدث والتأثير باعتبار وظيفتي في تدريب الموارد البشرية، غير أني لا أتفق مع هدر الطاقة بهذه الكثافة، ولا التفريط في العزلة لأنها تصنع ذاتي الخالصة.
ولقد قرأت في بداياتي ما عزز لدي قيمة التأثير الإيجابي في القارئ، فأخذت على عاتقي عدم نشر ما لا يفيد المتلقي أو يضره، لهذا لا أنشر ما أكتبه بمشاعر قاتمة؛ لأني لا أكتب فحسب، متجاهلة تأثير الكلمات على الناس، بل أفكر كثيرًا في قُرّائي الذين أحترمهم ولا أرغب بإيذائهم.
ويحدث أن أُحبط، ولكن عندما أرى أعاصير الأفكار تتدافع في مخيلتي بفوضوية مفرطة، يستفزني استغفال البعض من الناس وخداعهم، فأعود لكتابة شيء ما، مثلًا: «إن الشهرة لا تعني الجودة، والجماهير ليست علامة مؤكدة للقيمة السامية، وأن الضوء عميقٌ في هذا الوجود، تعرفه النخبة وعلينا إيجاده بلياقة عالية.»
رجاء البوعلي، كاتبة سعودية.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.