لو قُدر لك أن تسافر إلى أثينا حتمًا ستقف على أطلال الحضارة الإغريقية، وستشاهد شارعًا باسم أرسطو، ولو زرت باريس الفرنسية ستمر على شارع موليير، ولو فكرت في زيارة موسكو ستتجول في حديقة بوشكين الروسية.
ولو سافرت إلى برلين الألمانية وأنت من محبي الآثار لا بد لك أن تذهب إلى متحف بريخت، وسيرشدك الدليل هناك إلى أن تسافر معه عبر الزمن إلى منتصف القرن العشرين لتشاهد منزل بريخت. أسماء قديمة خلدها التاريخ ولم يعد لها وجود الآن، لكن معالمهم الحضارية ما زالت باقية. ما السر في ذلك ومن هم هؤلاء في الأصل؟ إنهم أعظم كتاب الدراما المسرحية في العالم. الفيلسوف العظيم أرسطو هو أول من برع في كتابة الدراما المسرحية في اليونان، وجعل منها فنًا قائمًا بذاته. كان ذلك منذ ألفين وخمسمائة سنة، وقد سطر ذلك في كتابه «الشعرية» الذي استعرض فيه أهم الأعمال المسرحية حتى زمانه، ورتبها وصنفها وفرز واستنبط منها أهم القواعد التي بنيت عليها وأدت إلى نجاحها وخلودها.
وها هم المتخصصين في الكتابة الدرامية المسرحية الحديثة يعترفون ويُقرون أنهم ما زالوا متأثرين بالقواعد التي صاغها أرسطو بكتابه. وكذا الحال مع موليير عبقري فرنسا وهو من أوائل الكتاب المبدعين المسرحيين في فرنسا، الذي ظهر في القرن السابع عشر الميلادي وقد تخلى عن مهنته المرموقة كوصيف للملك، وانشغل في كتابة عديد من المسرحيات التي عبرت عن وجدان فرنسا بشكل خاص، والوجدان الإنساني بشكل عام. وأما شكسبير عبقري بريطانيا يصفونه أنه صانع لغتهم الحديثة، وبوشكن عبقري روسيا، وبرخت عبقري ألمانيا هؤلاء جميعهم أهم كتاب الدراما العالميين في المسرح.
أقول قولي هذا والمسرحيون العرب يحتفلون هذه الأيام وتحديدًا في اليوم العاشر من شهر يناير باليوم العربي للمسرح، وهو اليوم الذي حددته الهيئة العربية للمسرح، ويكون مناسبة لتقييم جهود الدول العربية لتطوير الفن المسرحي والتذكير بقضاياه. وتناغمًا مع مستهدفات رؤية المملكة ٢٠٣٠ أطلق المخطط العام لبناء أوبرا جدة كواحدة من أهم المنصات الإبداعية والثقافية والتي تعد أهم روافد المسرح والتي تشتمل على الشعر والموسيقى والغناء والباليه والديكور والفنون التشكيلية والتمثيل الصامت والمزج بينها.
لا أحاول هنا ادعاء المعرفة، ففهمي للأوبرا والموسيقى العالمية عمومًا لا يتجاوز فهم الكثيرين، ولكني أتكلم هنا عن مشاعري الشخصية لحظة الشعور الموسيقي التي تشبه تلك التي يشعر بها من يهيم بسماع صوت الفن الهندي دون أن يعرف كلمة هندية واحدة. نعم هذه هي الموسيقى والفن إنها لغات عالمية، لا تحتاج لمعرفة اللغة الألمانية لتفهم مشهدًا صامتًا في مسرحية تتخللها موسيقى بيتهوفن مثلًا، ولا تحتاج إلى تعلم اللغة النمساوية لتفهم أوركسترا موزارت، ولا تحتاج للإسبانية لتستمتع بلوحة لبيكاسو، وعندما تعيش في مجتمع يتأفف من هذه الفنون ويحاربها، فأنت تعيش في مجتمع لا يتحاور بلغات عالمية، لا يريد أن يعرف الآخر المختلف ولا يرغب في مد جسور الوصال العالمية. ومخطئ جدًا من يعتقد أن الأوبرا هي نموذج غربي صرف، فهناك دار الأوبرا المصرية والكويتية والعمانية والإماراتية.
أخيرًا، أقول إن إنشاء دار للأوبرا في المملكة يعد تحولًا ثقافيًا يكرس أهمية المسرح ودوره في صناعة الحضارة.
علي الشريمي، كاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.