هاجر صديقي عبدالناصر منذ عشرات السنين إلى ألمانيا وتزوج من فتاة ألمانية وأنجب أطفالًا شقرًا. كنت عندما أراه كلّ حين، أرى فيه شيئًا تغير وأقول في نفسي: «لقد خسرنا عبدالناصر». في الأمس وبعد الفوز التاريخي للمنتخب السعودي، اتصل بي بمكالمة مرئية من العاصمة برلين، مرتديًا «التيشيرت» الأخضر، ومحتفلًا بالانتصار وعيناه مغرورقتان بالدموع من شدّة الفرحة. قال لي: «فزنا.. لقد فعلها السعوديون»! يا لها من مشاعر هزّت كياني، ويا لها من دماء وفية لا تتبدل! أينما تكون ومهما ابتعدت عن وطنك العربي الكبير فستظل عربيًا حتى النخاع.
تحركت الحافلات من منفذ سلوى الحدودي إلى الجارة «الدوحة»، وزحفت الجماهير مشيًا على الأقدام تجاه ملعب «لوسيل» في منظر مهيب، يرتدون اللون الأخضر ويتوشحون بالعلم السعودي كأنهم غابة «ماكبيث» التي تزحف باتجاه القلعة. لم يكونوا جميعهم سعوديين، بل كان بينهم من يجري حب المملكة في عروقه مع الدماء العربية. سمعنا دعوات وهتافات بكل اللهجات العربية: من دول الخليج، ولبنان ومصر والعراق والأردن، وشاهدنا فيديوهات من فلسطين وسوريا وتونس والجزائر والمغرب العربي، ومن السودان واليمن، الجميع يتمنى أن تحدث المفاجأة ويفوز المنتخب الطموح على المرشح الأكبر للفوز بكأس العالم.
وانطلقت الصافرة، وبدأت المباراة والملايين داخل المملكة وخارجها يقفون على أصابع أقدامهم، وقلوبهم ترتعش خوفًا وطمعًا وهم يشاهدون ملحمة كروية لا تقبل القسمة. كنت واثقًا أن هذا المنتخب الذي يلعب على إيقاع دقّات ملايين الأفئدة المُحبة ودفء المشاعر لن يخذلنا، قيادةً وشعبًا ومحبين عربًا وعجمًا. كانت مباراة للتاريخ تملؤها لحظات دراماتيكية، كأننا نقرأ ملحمة طروادة عند اقتحام السور، وكأننا نشاهد مسرحية «هامليت» لشكسبير! لقد كانت مباراة استثنائية في كل تفاصيلها، عندما تشاهد أحد عشر فارسًا في الملعب، رجالًا بملامح وثقافة عربية أصيلة لم ترهبهم أسماء المنتخب الأرجنتيني وتاريخه، ولم يلقوا بالًا للتوقعات الكبيرة بفوزه، بل لعبوا كما أوصاهم سمو ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان آل سعود، حفظه الله، بكل عفوية وثقة: «العبوا لعبكم.. واستمتعوا في البطولة»، فكانوا كما أوصاهم فعلًا مستمتعين وممتعين.
هذه البطولة التي تستضيفها الأرض العربية لأول مرة، كانت سببًا قويًا لأن يكون أكثر من ٨٨ ألفًا في المدرجات جلهم يهتفون للأخضر، فكانت أصواتهم كالموج الهادر تؤازر وتهتف للسعودية. لم يجلسوا البتة، ومع كل حركة للاعبي المنتخب تراهم يصرخون ويموجون مثل إعصار أربك وشتت المنتخب المقابل.
وبعد أن أطلق الحكم صافرة النهاية معلنًا فوز المنتخب السعودي، امتلأت شوارع عواصم ومدن الدول العربية البعيدة عن الدوحة بأعلام وصور المنتخب السعودي، بينما كانت مدن المملكة العربية السعودية التي لم تهدأ ليلتها تعيش مشاعر فرح كأنه عرس كبير. هنيئًا لكم أيها الأبطال، ونيابة عن إخوانكم وأخواتكم من المحيط إلى الخليج أقول: شكرًا لكم، لأنكم وهبتمونا فرحة مشروعة كنّا بأمس الحاجة إليها. لا يزال الطريق طويلًا لكن البدايات الصحيحة تختصر كثيرًا من المسافات!
محمد العداربة، قسم النشر.
يرحب أرامكو لايف الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.