أحيانًا أتساءل مع هذه التحولات السريعة التي تعيشها بلادنا، واستهداف تنويع الاقتصاد: هل من الممكن أن نصل يومًا إلى جعل النشر في العالم العربي صناعة كما هو لدى الغرب؟ هل يمكن معالجته من مختلف جوانبه ليصبح فعلًا صناعة حقيقية تدعم اقتصادات الدول العربية، أم أن الأمر أكثر تعقيدًا مما أتخيَّل؟ فالمعروف أن النشر يبدأ من التشريعات وسن الأنظمة والقوانين وتطبيقها، بما يكفل حق المؤلف والمترجم والناشر والمكتبات، على المستوى الواقعي والافتراضي، وذلك مع تطوّر أوعية النشر، ورقيًّا وإلكترونيًّا وصوتيًّا وغير ذلك، وإيقاف حالات تزوير الكتب ونشرها مجانًا.
ولكن هذا يتطلب أيضًا اشتغالًا حقيقيًّا على دعم القراءة وتشجيعها من خلال أنظمة التعليم، والمكتبات العامة، والأسر، وأندية القرَّاء؛ إذ لا بد من تكريس القراءة كفعل يومي روتيني منذ الطفولة، وفي كافة الأماكن العامة، كي تنهض دور النشر كمؤسسات ضخمة وفاعلة في الاقتصادات الوطنية.
على دور النشر هذه أيضًا أن تتحول إلى صانعة نشر، ولا تكتفي بدور الوسيط إلى المطبعة، وهذا لن يتم إلا بتأسيس هذه الدور على عناصر مهمة تُستخدم في الغرب، ولا تتوفر لدى الناشر العربي، بدءًا من التعامل مع الكاتب عبر وسيط كوكيل أدبي، وحتى مراحل مراجعة النص وتحريره، فدور المحرِّر يختلف عن دور المراجع اللغوي، لأنه يمتلك خبرة في مجال الكتابة وأنماطها المختلفة؛ فمثلًا من يتخصص في تحرير الأعمال الأدبية كالروايات يفترض أنه يمتلك خبرة جيدة في بناء ومعمار الرواية، وفي تنامي الحدث، والشخصيات، والمكان... إلخ. فتجده يقترح على الكتاب تطوير نصّه في بعض الأجزاء، أو الحذف مثلًا، فهو شريك مهم ومؤثر في صناعة الكتاب.
ثم تأتي أمور الصف والتصميم والغلاف والدعاية للكتاب، وترويجه، وتنظيم رحلات الكاتب للترويج لعمله، وهكذا هي دورة نشر طويلة ومرهقة، لكنها تؤتي ثمارها بشكل رائع، خلافًا لما يحدث في العالم العربي. وهذا ما يجعل الكتاب الأجنبي أكثر قيمة في الغالب من الكتاب العربي، لأنه ببساطة تتم صناعته بشغف وعمل دؤوب.
ولو نظرنا إلى عنصر واحد فقط، مثلًا القيمة الكبيرة التي يضفيها المحرِّر على الكتاب، لوجدنا فارقًا هائلًا في أثره على صناعة النشر، بل إن دور النشر الأجنبية تتنافس على المحررين المميزين كما تتنافس أندية كرة القدم على اللاعبين المحترفين، حتى أن خبر استقطاب محرِّر جديد ومعروف، له مكانته في عالم صناعة النشر، يجعل الدار المستقطبة تضعه على صفحتها الأولى في موقعها الإلكتروني، لتثبت أن مخرجاتها أعلى جودة من غيرها.
ولو نظرنا إلى عنصر آخر في دورة النشر هذه، مثل أهمية الوكيل الأدبي كوسيط بين المؤلف والناشر، فهو يكفل إيجاد مؤلفين محترفين، يمتهنون الكتابة ويتفرغون لها ويعيشون من دخلها، وهو الأمر الذي لم يتوفر لكاتب عربي قط. وهذا سيطور حالة الكتابة وبالتالي صناعة النشر، وقد تنبَّه الزملاء في هيئة الأدب والنشر والترجمة إلى ذلك، وأقروا منح رخص لوكلاء أدبيين في المملكة، وهي بلا شك خطوة رائدة ومهمة، قد تحتاج إلى سنوات عديدة كي تظهر نتائجها وأثرها على صناعة النشر في المملكة، ومن ثم تترك أثرها على العالم العربي، الذي يجب أن يعمل معًا على ضبط حقوق النشر والترجمة، ليصبح جزءًا من العالم المتطور في مجالات صناعة النشر، وكذلك دعم هذه الصناعة من قبل الجهات الثقافية والحكومات، حتى تصبح قطاعًا كبيرًا قادرًا على الإسهام في التنويع الاقتصادي المأمول.
يوسف المحيميد، روائي وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.