في كل مرة ألتقيه فيها، أجده ساخطًا متبرمًا من كل شيء حوله؛ ليس من واقعه المحسوس المحيط به فحسب، بل حتى مما لا يُرى ولا يُحسُّ من عوامل ميتافيزيقية وغيبية يعزو إليها أيَّ فشل يصيبه في حياته الشخصية والمهنية، فتأخر وصول الترقية والزيادة في مدخوله السنوي، والفشل الذي مُنيت به علاقته الأخيرة لا سبب لهما في نظره إلا الجن المتربص به أو اللعنة التي حلّت عليه.
يتناسى الناس أن حياتنا هي نتاج تراكمات كثيرة وتجارب وأفكار عديدة تمت برمجتها وأرشفتها على مر السنين، فإذا ما آمنا بقدراتنا وإبداعاتنا، وحرصنا على تطويرها وسعينا سعيًا جادًّا في أن نكون متأهبين لاقتناص الفرص المتاحة، فستفتح لنا الحياة أبوابها وسنكون في الصفوف التي تليق بنا.
يبدأ تقديرك لنفسك من تقبلك لذاتك وحبك لها والارتقاء بها إلى حيث تستحق ومعرفة ما الذي يجعلك سعيدًا راضيًا؛ فالتمحور حول الذات ليس وصفًا نرجسيًّا بالضرورة، فالخيط الرفيع بين الأمرين يكمن في ألا نستسلم لوهم الإحساس بعظمة الذات، وألا نغالي في الشعور بالاستحقاق.
وبما أن حديثي عن الذات، فدعوني أستدعي شيئًا من الفلسفة هنا، ولننظر كيف عرّف بعض الفلاسفة (الأنا). يقول ديكارت إن الأنا تكون موجودة حين تفكر. أما هيوم فالأنا لديه تكون موجودة حين تجرب. ويؤكد كانط أن الأنا تكون موجودة حين تتعالى. في حين أن أنا نيتشه تكون موجودة حين يعاني، وأنا فرويد تكون موجودة حين يتناقض. وتكون الأنا موجودة عند هوسرل حين تشعر، وعند مرلوبونتي حين تتجسد. وأخيرًا تكون الأنا موجودة عند سارتر حين تتحرر.
أما محدثتكم فتعترف أن الأنا تكون موجودة مع السلام الداخلي مع ذواتنا، إذ أنه يعطي انطباعًا لدى الآخرين بجمالنا، وأعني التعامل مع دواخلنا بكل حمولتها الثقافية كلوحة فنية في طور التشكل وعدم الالتفات إلى توقعات الآخرين، لأنه مهما فعلنا فلن نكون في نظرهم جيدين بما فيه الكفاية، بالإضافة إلى أن الأشخاص الذين ينتظرون رضى الناس ويحرصون على تصوراتهم عنهم مجرد أفراد يعيشون تناقضات الآخرين، فرضى الناس غاية لا تُدرك، والأحرى بها أن تُترك.
فيكتور فرانكل، عالم الأعصاب الشهير، وأحد الذين نجوا من مجازر النازية، ومؤلف كتاب «الإنسان يبحث عن معنى» لا يرى أن أفضل خياراتنا في الحياة هو ما يحقق ذواتنا، بل ما يتسامى بها ويسعفنا في تجاوزها، انطلاقًا من أن الإنسان مخلوق مسؤول، والمعنى الحقيقي لحياته يوجد في العالم الخارجي وليس في ذاته. وفي تصور فرانكل، لا يجوز اعتبار العالم الخارجي مجرد أداة لتحقيق الذات، لأن ذلك ينطوي على الاستهانة به، فمعنى الحياة يتغير باستمرار، لكنه لا يكفُّ عن الوجود، وتكوينه والتوصل له يكون عبر عمل جاد أو عبر اختبار قيمة من القيم أو عبر تجارب الحياة بكل ما فيها من ألم وتحدٍّ.
أخيرًا، تذكر جيدًا ودائمًا أن معرفتك لذاتك هي سيدة المعارف جميعها، وهي خطوتك الأولى صوب النجاح الذي تصبو إليه وتمنّي نفسك به.
رائدة السبع، كاتبة سعودية.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية..