لعل الشرخ الأكبر في أي جدار هو صورة الميت. تلك الصورة التي كانت قبل أن يموت ضحكة البيت وطمأنينته.
لم يكن على جدران بيتنا الأول غير صور المناظر الطبيعية. لا أدري هل كانت منتقاة بعناية أم كانت للزينة فحسب. كان النهر في غرفتي، والمروج الخضراء في غرفة أختي الكبيرة، والشمس في الصالة حيث تشرق حقًا بحضور الجدّة، فإذا غادرتها توارت خلف الحجب وعادت الصالة غرفة مثل بقية الغرف، إذ لا صالة من غير جدّة. كانت آية الكرسي على جدار المجلس نقرأها فنسمع صوت عبدالله خياط، ثم عُلِقت قبالتها صورة أبي.
كانت تلك فكرة أختي، وكنت أنا من اختار الصورة التي يظهر فيها أبي بالغترة البيضاء، إذ طالما كان يميل لها أكثر من الحمراء. طرف الغترة الأيمن ينسدل على صدره، أما طرفها الآخر فمطويٌّ فوق كتفه الأيسر. عيناه الودودتان لا تلفتان الانتباه لأن من ينظر إلى الصورة أول مرة تنصرف عيناه إلى الشارب الكث الذي يخفي شفة أبي العليا، ويبدي شبابه المطمئن. كان ذلك الشارب موضة دارجة في السبعينيات وقد ظل أبي وفيًّا لها حتى النهاية.
رأينا أن تكون الصورة أعلى كرسيه المفضل. ولما دخل أبي المجلس ولمح صورته في برواز مذهب تظاهر بعدم رؤيتها وكتم دهشته وابتسامته كأن الصورة هناك منذ الأزل. عندما جلس، كان أبي على كرسيه وكانت صورته على الجدار وكنا نحمل أينما ذهبنا نسخة احتياطية منها في القلب. لا بد أن أبي توقف عند صورته أكثر من مرة وراح ينظر إلى ذلك الشاب الذي تركه منذ سنوات راصدًا تلك الفروقات التي باتت تتزايد بينهما سنةً تلو الأخرى. وبعد سنوات مات أبي وخلا كرسيه، وبقيت صورته كما هي أعلى الجدار، صورته ميتًا هذه المرة.
على الأب أن يموت حتى تكتمل صورته عند أبنائه، فإذا صار ذلك الابن أبًا رأى ما خلف الصورة. في أيام العزاء الأولى كان الجميع ينظر إلى صورته متوقفًا عندها كما لو كانت شاهدة قبره. يبدو أن صورنا اليوم شواهدنا غدًا. كانت صورته تتلقى تعازي الأهل مثلنا تمامًا، بل بدت غترته البيضاء لوهلة من غير عقال. بقيت أنظر إليها شهورًا حتى كدت أحدثها ثم رحت أتفادى النظر إليها خشية أن تبادلني النظر.
كانت الصورة تلح على ذهني أن أبي ما يزال حيًّا، وكم كنت بحاجة إلى هذا البصيص من الأمل الذي كان يتسرب من يدي في الحال. كنت قد دفنته بيدي نفسها، ولن يعود أبدًا إلا في الأحلام أو الكتب. ثم ألِفنا الصورة من غير أبي. راحت أختي تمسح عنها الغبار كأنها تسترد وجهه من الدود، ورحت أطيل الوقوف عند صورته، بل وأحادثها وتحدثني. ثم كان على كلٍّ منا أن يمضي إلى بيته الجديد ويختار جدارًا آخر غير القلب ليعلق عليه صورة أبي.
عبدالله الناصر: كاتب وقاص سعودي. زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.