عندما أقابل أشخاصًا في مناسبات، أو أتعرف عليهم خلال زيارات الزملاء والأصدقاء، فمن الطبيعي أن نتعرف على بعضنا بعضًا، وحين أعرّف بنفسي، فإن بعضهم يرحب متحمسًا: «يا هلا بأهل بيشة.. جبت لنا تمر صفري... ولا بيشة ما وراها عيشة!!» ويضحك فَرِحًا وكأنه انتصر في مسابقة ما.
جملة «ما وراها عيشة» مرّت عليّ في أكثر من موقف دون جدّية مني في البحث عن حقيقتها ومن قالها ولماذا ومن نقلها وكيف نقلها! ولمّا عقلتها وتوكلت لأن أعرف، سألت نفسي: إن كانوا يقصدون أن بيشة «ما فيها عيشة»، فكيف كانت معروفة إذًا بتمر الصفري وغيره من منتجات الحبوب؟
وقد تضاربت آراء الباحثين حول بيشة، فمنهم من قال إنها أرض في غرب نجد لا يوجد فيها شجر مثمر وإنما الرضام والإثل، مستشهدًا بالشاعر لبيد بن ربيعة العامري، ومنهم من قال إن القوافل التي تسير من الحجاز إلى اليمن والعكس كانوا يمرون بجهة بيشة المعروفة بأسواقها العظيمة، مستشهدًا بما ذكره المؤرخ حمد الجاسر، وهناك من قال إنها كثيرة النخل والفسيل وفي واديها موضعٌ مشجرٌ كثير الأُسد، مثلما قال ياقوت الحموي.
يقول الكاتب الدكتور بكري عساس في مقالٍ نشره في جريدة المدينة إن بيشة: «تقع على وادي بيشة الكبير وعلى ملتقى عدة أودية تصب من جبال السروات ومن بلاد شمران شمالًا حتى سراة عبيدة جنوبًا، فهي إذًا ملتقى لأكثر من عشرة أودية كبيرة وهذه الأودية مجتمعة وفّرت على مدى التاريخ مياهًا وفيرة جعلت من بيشة واحة زراعية تعج بمختلف أصناف النخيل والتمور والمياه العذبة والأراضي الخصبة الصالحة لمختلف أنواع الزراعة من الفواكه والخضراوات ومختلف أنواع الحبوب. ولموقع بيشة المهم على طرق الحج من اليمن وعُمَان قديمًا ونجران وعسير وطرق التجارة إلى الحجاز واليمن ونجد، أصبح الناس يوصون المسافر بالتموّن من بيشة فيقولون: «خذ مونتك من بيشة ترى ما ورا بيشة عيشة» آخذين في الاعتبار بأن شرق بيشة صحاري وغربها جبال والعيشة في بيشة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن العيشة سابقًا هي في واقع الحال تتمثل في التمور والحبوب. لذلك لا غرابة أن تقوم بيشة وزراعتها بدورها المشهود في تموين جيوش الملك عبدالعزيز – طيّب الله ثراه – المتجهة لعسير أثناء مرحلة التوحيد وكذلك أثناء حصار جيوش المؤسس لمدينة جدة لأكثر من ستة أشهر، كما كان هذا حالها في عصر الدولة السعودية الأولى».
ويبدو لي في أغلب الظن أن ما جاء به الدكتور عساس قريبٌ من الروايات التي يتداولها كبار السن في بيشة بأنها كانت بركة خير تموّنت منها جيوش الملك عبدالعزيز أثناء رحلة الكفاح لتوحيد المملكة العربية السعودية. كما كانت القوافل تحرص على أن تمر بيشة وتتزوّد بالمؤن قبل أن تباري سراب الصحاري.
ولو أن صاحبنا الضاحك بحث عن مقولة بيشة لعرف نزرًا يسيرًا في توحيد المملكة، ولتتبع سير تلك الجيوش العظيمة التي راحت شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا وواجهت الصعاب والظروف القاسية وتقلبات الأجواء حتى توحّدت «المملكة العربية السعودية» هذا الكيان الكبير بل القارة، كما يصفها الأستاذ الدكتور عبدالله الفوزان، في درسٍ تاريخي قدّمه لطلابه: «أنا أركب الطيارة من القريات إلى نجران يضيق صدري وأنا في براد والمضيفة تعطيني أكل وشرب.. اشلون قدروا يوحدون هالمسافات والملايين من الكيلومترات وهالجبال والمنخفضات! منين لهم؟ شلون قدروا؟»
كل عام والوطن في رخاء ونماء.
فايز بن سيف البيشي، إدارة الاتصال المؤسسي.