تُرى ما الذي يحمل بعض الأدباء، والأدباء تحديدًا، على الاعتقاد أن لهم في ذمة البلاد، وأعناق العباد، من الحقوق والواجبات والامتنان ما ليس لغيرهم، ولماذا يفترض الأديب وحده أن من نافلة حقوقه الخلو من كل عمل، وأن يكون له من الدخل الذي يُساق بغير عناء، وجزيل العطايا ما ليس لعالم ذرة أو أمهر الأطباء؟!
وهذا الظن ليس حالة فردية تخص أديبًا بعينه أو شريحة ضئيلة منهم؛ بل يسعنا القول إنها لوثة متفشية وقديمة، تجسدها تلك الأصوات الساخطة على نكران المجتمع، وتخلف المؤسسات الرسمية عن تبني الأديب من ألف حياته إلى يائها مقابل أن يتفرغ لبوهيميته، وفوضى حياته، ولينجز في نهاية الأمر عددًا من القصص أو الروايات أو القصائد؛ حسب إقبال النفس وارتياح المزاج، دون أدنى تكليف أو مساءلة، بينما الطبيب الذي ينقذ الأرواح وتصح بطبه الأجساد والنفوس، والمهندس الذي تتخلق من أفكاره الصروح والمنشآت، والعالم الذي تتغير بمنجزاته ملامح الدنيا، والمعلم الذي يريق عمره بين الفصول وغبار الطباشير؛ كل أولئك لا يحق لهم ما يحق للسيد الأديب من الحفاوة والامتيازات!
وعلى الرغم من أهمية الأدب باعتباره رافدًا ثرًّا لنهر الحياة، وملاذًا من وعثاء الكدح ومتاعب اللهاث، وعوالم موازية تستكين إليها الأرواح، وخطابات تكتنز الحياة بأنساقها وشفراتها، وذاكرة هائلة بامتداد الوجود الإنساني؛ إلا أنه لا يبرح في نهاية الأمر أن يكون مجال اهتمام يوازي ويساير بقية المجالات، ويسهم في تكامل مشهد الوجود واتزانه وتنوعه، ويسعى إلى غاياته ضمن منظومة متناغمة من معطيات الحياة، دون أن تبلغ به الفرادة والاختلاف حد الطغيان الذي يخلق تلك الذوات المتضخمة الباغية التي تجسد مثالًا فاقعًا للبطالة المقنعة القانعة بأوهامها!
ولهذه اللوثة جذرها الذي يبلغ تخوم زمن كان فيه الشعر مادة الفصاحة وديوان الحياة، حين كان الأدب عمومًا ينهض بدور فاعل في التغيير وتشكيل واقع الحياة، ليس لدى العرب وحدهم؛ بل حتى في الثقافات الأخرى التي بلغت ببعض أشكال الأدب حدود القداسة، قبل أن يسهم التنامي الحضاري الممتد والمتسارع في تراجع أدوار الأدباء والشعراء حد الإطاحة بها في زمن الجنون التكنولوجي الذي أربك يقين الأدباء، وهز تصوراتهم القديمة، وأقصى أهمية الأدب حتى أحاله قطعة اكسسوار في لوحة مكتنزة التفاصيل.
ويعزز هذه اللوثة لدى الأديب وهم الاعتقاد أن الإبداع في الأدب قرين الفراغ، وصنو الرغد الذي تُجبى فيه ثمرات كل شيء إلى مائدة الأديب، بينما هو عاكف على حبره وصحائفه، وذلك وهم تنفيه تمامًا سِيَر أشهر وأقدر أدباء العالم المقترنة بالكدح والنضال وأعتى المتاعب وتقلبات الأحوال، التي نضجت في نيرانها أشهر وأمتع روائع الإبداع الأدبي، بينما ينفق بعض موهومي الأدب عمره ساخطًا متبرمًا، وأكثر غنائه: أضاعوني وأي فتى أضاعوا!
محمد الراشدي، كاتب وناقد سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.