رائحة القهوة التي تزاحم ضوء الشمس العابر في مباني الشركة، تحضر في هدوء لا مثيل له وهي تذكرنا بأجراس الحاضرين مبكرًا إلى مواقعهم، كلما ارتفعت حرارة الشمس صيفًا هربت بطقس المشي الصباحي من الشاطئ في نجمة إلى داخل المباني الباردة، مبنى الإدارة الشمالي والغربي معًا، هناك تخلع خطواتي صمت المكان، وتنثر أنفاسي بقايا ذكرياتها من سنوات مرت مسرعة من هنا، بينما تلوح لي القهوة بروائحها النفاذة من زوايا المكاتب، في دلالة على الواصلين مبكرًا والمشغولين بتحضير كؤوس البهجة التي اعتادوا عليها.
لي سيرة طويلة مع الشاي تمنعني من أن أكون من المتحالفين مع القهوة، غير أن يومياتي مسكونة برائحتها، لأقل إني صديق لرائحتها في أفضل الأحوال، وجدت فيها علامة من علامات المكان، أغادر رأس تنورة إلى الظهران، وأعبر من تناقيب والجعيمة، فأشعر أن بيارقها حاضرة في كل زاوية، وتواقيعها بارزة في وجه كل صباح، كلما صعدت طابقًا تصاعدت معها روائح القهوة التي تنوعت وتلونت مع تحولات الشغف الذي جلبته محلات القهوة المختصة.
في الأخبار القديمة لهذه الشركة، تتكرر الإشارة إلى إقامة حفلة شاي، دلالة على قيمة هذا المشروب الشفاف في اجتماع الناس، إلا أن ذاكرة الناس تحفظ للقهوة حضورها القوي كذلك، وإسهام الموظفين الأوائل فيها في هندسة مزاج الناس، جاؤوا وجاءت معهم تلك القهوة التي لا تعرف الهيل والمسمار كما هي القهوة التقليدية، قهوة صارمة في مذاقها، عميقة في لونها، تبلل أول سطر من سطور الصباح، وفي نواياها طرد كل نعاس الأمس.
من هم خارج الشركة يحدثونك عن قهوة «موظفي أرامكو» ، في إشارة إلى لون من القهوة التي كانت رفيقة للمكاتب طيلة عقود، ذلك الزاد الصباحي الذي «يدوزن» المزاج، ويصير المذاق والرائحة معًا لذة في ساعات منذورة للتعب، فمن لم يظفر بمذاق القهوة في مشواره الوظيفي سيكون حتمًا قد تعثر بروائحها الزاكية في ساعات الصباح.
سيقول أرباب القهوة الكثير عن غرامهم بهذا المشروب، إلى الحد الذي يشعرك أنهم بلغوا حد التسامي في هيامهم، غير أن نصل الرائحة هو الأقوى، وهو الأجدر في احتمالات السيرة، سيرة القهوة والمكاتب والسنين التي مرت.
هي الرائحة إذن، من يفتح الباب، بمثل ما يفتح المزاج، هي الصديق الذي يرافقك في سنين العمر، وأنت تصوغ شكل الصباح، فذاكرتنا دفاتر من روائح لا حد لها، كأنها الدليل في أفق الحياة، ترشدنا إلى واحدة من نعم الحياة.
هذه الحاسة التي إذا ما خانها الوقت، وأطاح بها المرض، أحسسنا بوحشة الأرض التي لا رائحة لها، وما رائحة القهوة إلا رائحة من روائح المكان الذي ندلف إليه كل صباح، فإذا ما غادرناه يومًا سكنتنا روائحه.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها. cw@exchange.aramco.com.sa