يتوق الإنسان لأن يُرى، تمامًا كتوقِهِ لأن يَرى؛ وحاجته إلى وهج الضوء المعنوي تسابق حاجته إلى أشعة الشمس، بل ربما سبقتها بأميال! هذه الصفة تكشف عن نفسها في البشريِّ مُنذ صِباه الأول، فهذا طفلٌ يضرب أخاه الأصغر بحثًا عن عين أمه الحانية، وتِلك فتاة لم تُجاوز الخامسة تمشي الهُوينا أمام أبيها في فستان العيد مرهفةً سمعها لغزل يليق بهذا الجمال العَذب!
ربما كانت تلك إذن صفة فطرية فينا نحن البشر، نكبر فتتفتَّح رغبتنا في أن نكون محطَّ الأنظار على أفق أوسع من الخيارات، ومدًى أرحب من الوسائل لإشباع تلك الرغبة؛ هل نلوم إذن شاعرنا المتنبي؟ حين يُعرب عن رغبته تلك بخياله المستحيل في لسان عربيٍّ فاخر حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. وأسمعَتْ كلماتي من بِه صمَمُ
بطبيعة الحال، هذا الشغف الفطري يمكن له أن يُلقي بالإنسان إلى مهاوٍ خطيرة تغدو به موضعًا للانحطاط والتندُّر والسخرية، أو تجعله مُستحقًا للأسى والشفقة، كمن يسعى لإنهاء حياته في محاولة "انتحار مشهدي"، أو من يجعل من بدنه وليمة للعيون الناظرة رجاء أن يمنحه الاختلاف المُستهجن ما لم تمنحه الأُلفة المحبذة! لا يحتاج هذا الأمر إلى مزيد تأمل في يومنا الحاضر لتقتنع بذلك، نظرة خاطفة بعينيك على "السوشيال الميديا" كفيلة بأن تُقذيهما وتعصر الجنان حسرة لقاء ما يصادفه من "مخابيل" و"مهابيل"، يطلبون الشهرة فينالونها بأبشع وسيلة تُنال بها الغاية.
لكن هذا الجانب المُظلم من البحث عن الضوء له ما يقابله من الحسن والجمال والخير؛ فلا شك أن الرغبة في السُمعة والبحث عن الشُهرة، بل المراء إن أردت أن تقول، دافع ذاتي يستأثر بنفسه أو ينضم إلى غيره ليُضاهي في تأثيره أعتى الدوافع النفسية الأخرى، بما فيها المال والمنصب؛ فهل كانت البشرية لتخرجَ بعجائبها السبع وأكثر حضارتها المادية والمعنوية لولا هذا؟ ولولاه كم كنَّا نحن معاشر الناس لنخسر من حاتمٍ كريم يجود بماله مُتمثِّلًا قول حاتمنا الطائي:
أمَـاويُّ إن الـمـالَ غــادٍ ورائحٌ.. ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذكـرُ
الرغبة في نيل الثناء والإعجاب واستحسان الطرف الآخر، هي رغبةٌ في الحياة قد تُبقي الإنسان حيًّا في كثير من الأحيان، وهذا الخيط من الضوء ربما جعلنا مُتعلقين بأهداب الأمل حين تغمرنا أمواج اليأس.
لكن لا سبيل أيضًا لإنكار أن هناك نماذج بشرية تُعد مثارًا للإعجاب والتعجُّب، من حيث أنها تحيا في تجرُّد عن هذه الرغبة؛ تحيا وإن دُفنت في قبور تمشي على التراب؛ تحيا دونما حاجة إلى أن يُبصرها أحد كما يحيا الضرير على هذه الأرض دون ضوء الشمس.
هل جرَّبت أن تعمل خلف الستار بينما تسطع النجوم على خشبة المسرح وفي شاشة التلفاز؟ أو أن يستأثر رئيسك بالتكريم لإنجاز كدحت نفسك فيه حتى تحقَّق؟ هل جرَّبت أن تقول ويُنسب إلى غيرك؟ أو أن يذهب اسمك أدراج الرياح في لوحة أذبت أصابعك في أصباغ ألوانها؟ هل كان الأمر ممتعًا أم شنيعًا حدَّ الموت؟ إذا كانت الثانية فشاركني عجبي الذي لا ينقضي من أولئك الواقفين على طرف النقيض من طبيعتنا البشرية السائدة؛ أبطال ما وراء الستار الذين صنعوا التاريخ دون أن يُدوِّن اسمهم على صفحاته!
ميثم الموسوي، قسم النشر
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها. cw@exchange.aramco.com.sa