لم يُصب أحد كبار السن في عائلتي بالزهايمر من قبل، وفي حديثي مع أحد أصدقائي عن هذا المرض -ولا أدري كيف وصلنا إلى قصص النسيان هذه- أخبرني أن والده مصاب منذ سنوات بهذا المرض.
كان مسترسلًا في الحديث، وأخذ زمام الحكي على غير عادته، استرسل لدرجة لم تمكني من إضافة شيء -كعادتي- من قبيل الروايات والأفلام التي أعرفها عن الزهايمر، فلم يكن في حاجة لإرهاق خياله مع صورة يشاهدها يوميًا، أو هذا ما هجست به لنفسي.
لم أكن قد التقيت والده، ولكنني أعملت ما أجيده من تخيّل لفهم قصص والده اليومية مع النسيان. في البداية كان ما يحدثني به منطقيًا، والحكاية تكاد تكون مطابقة لما قرأته وشاهدته، إلى أن قال: «المحزن أن والدي صار ينسى أدق تفاصيل السلوك اليومي»، «مثل ماذا؟» سألته، فأجاب: «صار ينسى كيف يجلس!».
لوهلة شعرت بألم في أسفل ظهري، وحاولت أن أستفهم منه معنى أن ينسى الشخص كيف يجلس، لم أستوعب الفكرة، وحين شرح لي بساطتها، ودقة عبارته، غرقت في حزني، واغرورقت عيناي، كيف يمكن لأحد أن ينسى كيف يجلس؟!
شاهدت مرة فِلمًا عن امرأة نسيت مكان دورة المياه، وظلت تدور وتدور في البيت، تفتح كل الأبواب دون أن تهتدي إلى هدفها الطبيعي والبسيط، وقرأت أن ماركيز كان يقول لصديقه: «أنا لا أعرف من أنت لكنني أعرف أنني أحبك»، يبدو أن تصوراتي حول الزهايمر كانت فنية إلى درجة كبيرة، فلا يحركها إلا مشاهد لها علاقة بالتصور التخييلي، الغني بصريًا ولغويًا.
خرجت من الاستراحة التي كنت أجتمع مع صديقي فيها، وفكرة الوقوف السرمدية تستحوذ على ذهني، تخيلت مجموعة من البشر المصابين بنفس حالة النسيان هذه، كيف سيكون المشهد؟ كيف سيهتدون إلى فكرة الجلوس؟ تخيلتهم يتساقطون واحدًا تلو الآخر، وتخيلت الإرهاق قناصًا يجهز عليهم واحدًا واحدًا.
وفور دخولي إلى البيت وقعت عيني على الكرسيين المتقابلين وبينهما المرآة، نسميها فيما بيننا مرآة المدخل، متجاهلين أي وجود للكرسيين المتقابلين. عندما أسأل عن حذائي الذي يضيع دائمًا، تصرخ زوجتي: «ابحث عند مرآة المدخل». لا أذكر أنني جلست على أحد هذين الكرسيين يومًا، ولا أتذكر أن أحدًا من ضيوفنا فعل ذلك، شعرت للمرة الأولى بعبثية وجودهما، واستغنائنا عمدًا عن وظيفتهما، وتملكني الحزن عليهما.
كان ألم ظهري يزداد بسبب الوقوف الطويل، وكان صعبًا علي أن أجلس على أحدهما بعد كل هذه السنوات من التجاهل، أحسست أن هذين الكرسيين عالقان في نسيان مضاد، وكان من القسوة بمكان أن أذكرهما بفكرة الجلوس، خشيت بالفعل أن يفزعهما جلوسي!
عبدالله العقيبي، كاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
