أحسد الذين يحافظون على ولعهم باكتناز الكتب حتى آخر العمر، من أمثال كولن ويلسون، وألبرتو مانغويل، وبالطبع بورخيس، الذي تخيل الفردوس في شكل مكتبة.
لكي يمتلك المرء ولعًا كهذا، يحتاج إلى شجاعة التحديق في وجه الموت، ذلك العدو الذي لم يخسر معركة، والذي يدفع آخرين ـ وأنا منهم ـ إلى التساؤل عن المتبقي من العمر لحظة الوقوف أمام كتاب جديد.
عن نفسي، ربما لا يكون الخوف من الموت دافعي إلى توخي الدقة عند شراء الكتب الجديدة؛ فقد أدركت مبكرًا أن ما أحتاجه هو الوقت الكافي للقراءة لا مكتبة بحجم الكون.
وعشت أجري عمليات تقليم لمكتبتي، قد تتقارب أو تتباعد حسب الظروف.
لكن الأمر ليس سهلًا بأية حال، فالفرق شاسع بين مبدأ التخلص من الأغصان غير الأساسية، وبين تحويل هذا المبدأ إلى إجراءات وقرارات تبدأ بتقييم كل كتاب بعد إخراجه من الصف، من خلال استعراض فهرسه، واختيار صفحة عشوائية للقراءة بغية تذوق الطعم مجددًا، ثم اختيار صفحة أخرى، ثم الحيرة في القرار، أو اتخاذ القرار الخاطئ؛ فكثيرًا ما أستغني عن كتب ثم أستشعر الحاجة إليها، فأعيد شراءها مجددًا.
الشهر الماضي، شرعت في واحدة من عمليات التقليم، لكن الكتب استدرجتني إلى فخ تحاشيته أعوامًا، كنت ألاحظ منذ مدة كبيرة أن المكتبة لا تتكدس فحسب، بل تضرب الفوضى في جنباتها، حتى لم يعد ينقصها إلا أن تنمو فيها الأعشاب.
يبدو أن الكتب لا تفعل شيئًا بعد أن أنام إلا التصارع فيما بينها، إذ وجدت الكثير من منها قد غادرت أماكنها.
كتب تمردت على الهامش لتتربع في الصدارة بين الكبار، وأخرى ضاقت بعائلتها فاندست في عائلة جديدة.
ورأيت هذه المرة استحالة السكوت على هذا الأمر. هل استفحلت الفوضى، أم أنني شرعت في التقليم هذه المرة بضمير أكثر يقظة؟
رغم معرفتي بالعواقب، قررت إعادة الأمور إلى نصابها، وهذا ليس بالأمر السهل، خصوصًا على شخص يهوى كتابة وقراءة الكتب العصية على التصنيف.
أين سأضع «جماليات المكان» لغاستون باشلار؟ أبجوار كتبه الأخرى؟ وفي ركن الفلسفة أم ضمن ركن العمارة والفن التشكيلي؟ سيرة إدوارد سعيد «خارج المكان» هل تكون ضمن مؤلفاته الأخرى أم في قسم السيرة الذاتية بجوار سير الكتاب الآخرين؟ وهل ينقسم إدوارد سعيد نفسه بين دراسات الأدب ودراسات السياسة؟
ما قدرت له يومين أو ثلاثة استغرق أكثر من ثلاثة أسابيع، من دون أن أكون راضيًا تمامًا عن النتيجة.
في كل يوم أُنزل مجموعة من الكتب بأمل تسكينها في أماكن أخرى، وينتهي اليوم في عمليات التذوق وإعادة الفحص، وعلاج المصاب من الأغلفة.
الذين يحبون الكتب، يعرفون أوقاتًا كهذه. ليس التعب وحده ما نلقاه في أيام تقليم المكتبة، إذ لا ينتهي يوم إلا ببعض المسرات: اكتشاف كتاب مهم تصورنا أنه مفقود، أو إعادة الاعتبار إلى كتاب لم نُقدِّره من قبل، وهناك كذلك الفرح بالأسلاب؛ كتب الآخرين التي استعرناها ولم نعدها إلى أصحابها، وهناك في المقابل تذكُّر ما أعرناه ولم يعد.
برزت لي رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر بترجمة الرصين جبرا إبراهيم جبرا، فأقنعت نفسي بأنني تعبت.
تخليت عن إكمال عملي الشاق في التقليم والترتيب، لكي أستمتع مجددًا، بقراءتها، وربما بقراءة نفسي، ومراجعة خياراتي من الجمل التي رأيتها سابقًا مميزة ووضعت تحتها خطوطًا.
من بين تلك العبارات لمعت أمامي جملة على لسان جاسن: «قال أبي كان السيد يُعرف فيما مضى بكتبه، أما اليوم فيُعرف بالكتب التي لم يعدها لأصحابها».
جعلتني العبارة، أراجع في ذهني ما أسفرت عنه حملة التفتيش، وتأسفت إذ اكتشفت أن عدد كتبي الذي خرج على سبيل الاستعارة ولم يعد أضعاف عدد كتب الآخرين التي استعرتها وفضَّلت البقاء عندي بمحض إرادتها!
عزت القمحاوي، كاتب وروائي مصري
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.