لم أجد أستاذًا يهذّب طلابه بكل هذه المهنية العالية في الأداء، كما يفعل الشهر الكريم بأهله؛ ففيه ينتقل البسطاء ما بينهم انتقالًا سلسًا إلى مقام السمو والرفعة احتواء ولطفًا، دون مفاوضات أو شروط، وفيه يؤول أمر الضغينة والشحناء ما بين شرائح المجتمع إلى جهة الحب والنقاء، وكأن هذا الشهر جهة أكاديمية يتدرب فيها طلاب الخير ما بينهم على فعل المعروف، ويلتقون فيها بطبائعهم الإنسانية التي جُبلوا عليها وجهًا لوجه في فصول البذل والإيثار؛ الإيثار الذي هو ليس مالًا ولا زادًا فقط، وإنما هو مقدار ما يشاطرك الآخرون كنوز الحب في روحك، تشاطرهم الحزن الذي يستبد بإحساسهم إلى أن تقدم إليهم آخر كسرة عون في حافظة العمر، فتثار بذلك دفائن الوجدان، وتغدو معادن اللطف براقة كالنجم، مصقولة كمرآة العروس.
يتجلى الأصدقاء في سماء الألفة الصافية، على هيئة قوس قزح من الألوان المبهجة وتسقط ما بينهم الحقوق عفوية، دون مطالب تعكر صفو الوداد، وتسرق أنس الفؤاد.
وبمقدار ما تفوح رائحة الأطباق في المطبخ إعدادًا وتحضيرًا، تفوح رائحة الطيبة والتسامح، وكأن اللحظات السعيدة هي أيضًا سهلة التحضير ما لم نجعل منها سريعة الذوبان.
أما الموتى فيكاد الأهل أن يحجزوا لهم مقاعد على وجبة الإفطار، وكأنهم حاضرون معهم لفرط ما هم يسطعون في أفق الذاكرة، يتحدثون معهم عبر مناجاتهم ويعانقونهم من خلف شبابيك الغيب، ويصافحونهم خلف أستار المداخل وممرات البيوت، يبحثون عنهم في غرفهم النائية، وينادونهم اسمًا اسمًا في الدعاء عند هطول صوت الطهر من المآذن القريبة، وهذا ما لا تفعله البقية الباقية من شهور العام، وكأن شهر الصيام وحده، ماركة سماوية مسجلة لها ختمها الخاص من السكينة والوقار.
هكذا تمد الطمأنينة أشرعتها في خضم هذا البحر المتلاطم، وأعني به بحر الحياة الشاسع، الذي ليس له سوى ربان واحد اسمه (رمضان) يمخر فيه عباب الوقت نحو شطآن الراحة المنشودة، عبر هذا التلاحم والتراحم الذي يبعثه في النفوس فتهدأ هدوء الموج بعد المد، ليشرق بعدها جانب آخر في حياة الناس وهو النبل، الذي يتجلى فيمن لا ينسى المرضى إذا كان في صحة، ولا يتجاهل الجوعى إذا كان في شبع، ولا يصد عن العراة إذا كان في ملبس، وهذا الشعور بالآخرين هو ما يجعل لحياته قيمة ومعنى، وهو صفة الإنسان الذي إذا كانت نفسه غنية لم يلهه الرخاء الذي هو فيه عن الشدة التي فيها الآخرون.
يا سيدي، فلا تذهب تجر وراءك ما في الصدور، وما زالت الأرض ظمآنة لشربة عدل ورشفة نور، وأنت الحاكم على النفس تردع ما فيها من الشرور. وليتك تنقل عدواك الجميلة إلى إخوتك الأحد عشر، فلربما عمّ الرخاءُ هذا العالم.
همسة أخيرة:
صادقتُ إخوته الشهورَ جميعَها
ما همتُ مشتاقًا بغيرِ ربوعِهِ
كالحبِّ ينزلُ باردًا في عاشقٍ
يمضي، ويتركُ مجمرًا بضلوعهِ
جاسم عساكر، شاعر وكاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.