يصعد الناس إلى أعلى نقطة في المدينة يراقبون الهلال بالعين المجردة، ومنهم من يطيل النظر إلى السماء مثل قنّاص متربّصٍ بالهلال المختبئ خلف غيمة مشاكسة ليحظى بمكافأة أول من شاهد الهلال.
ويتابع آخرون نشرات الأخبار على أجهزة الراديو للاستماع إلى لجان إفتاء الدول المحيطة. ويبدؤون بتناقل أخبار الأهلة المجاورة.
فيسأل أحدهم من أعلن ثبوت شهر رمضان؟ فيجيب آخر: فلسطين وسوريا ولبنان أعلنوا الصيام غدًا بينما لم تعلن السعودية بعد... وهكذا على مدار ساعات حتى يظهر المفتي مرتديًا عمامته البيضاء يقرأ على الناس ثبوت شهر رمضان.
بعد تهنئة الناس لبعضهم، تتجلى لحظة الحقيقة وهي نواقص البيت من الطعام والشراب، وماذا ومتى وأين وكيف يوفرها.
فالتهافت الكبير على الدواجن واللحوم بأنواعها يشعرك أنك إن حظيت بواحدة كأنك تمسك بالدجاجة الأخيرة على الكوكب!
أما الأغنياء فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والفقراء أيضًا لا خوف عليهم فهذا شهر الصدقات والأعمال التي يرق بها قلوب أصحاب النعم على محروميها. لكن ثمّة فئة من الناس المساكين المتعففين، الذين لا يسألون الناس إلحافًا مهما كلّف الأمر. هؤلاء من لا يتقطع قلبك عليهم لأنك ببساطة لا تعرفهم ولا تشعر بوجودهم.
كانت جارتنا الأرملة امرأة عفّيفة وعزيزة نفس بصورة ليس لها مثيل، تجوع ولا تأكل إلا من كدّ يمينها وعرق جبينها. مات زوجها وترك لها يتيمين صغيرين يزيدان حملها ثقلًا! لم تقبل أي نوع من الصدقات من أي أحد ولأي سبب كان.
كانت تعمل على ماكينة خياطة بسيطة وتنفق على نفسها وأطفالها، وكم سمعت هديرها في ليالي الصيف الهادئة في ساعة متأخرة من الليل وكم كنت أشفق عليها. لا تقبل أي شكل من أشكال المساعدة لأبنائها وما فتئت تقول: «لا أريد لأحد أن يكسر أبنائي ولو بشربة ماء».
ذات مرّة، جاءت إلى المدرسة تحمل بيدها حذاءً وزّعه مدرس التربية الرياضية على الفريق، ووضعته أمامه وقالت بنبرة غاضبة: «مصطفى ولدي لا يقبل الصدقات». ضحك المدرس وقال: هذه ليست صدقة، فهو قد مُنح لكل أعضاء فريق كرة القدم وليس ولدك فقط!
فقالت له: «على كل حال لا يحتاج ولدي الحذاء لأنني ابتعت له مثله تمامًا». كانت قوية وحازمة كأنها قائد قوات خاصة! وكانت مدبّرة في معيشتها في كل الأشياء والأوقات باستثناء واحد هو شهر رمضان، حيث كانت تركب الموجة وتتصرف كالآخرين دون حسابات، حتى أن مصطفى كان يقول لي: ليت شهور السنة كلّها رمضان!
كنا نصعد على سطح البيت الطيني لنراقب قرص الشمس وهي تغرق خلف الجبال ونبتهل إلى الله أن يعجل الدقائق الباقية. وبينما كنّا جالسين ننتظر أذان المغرب ومدفع الإفطار قال لي: أفزعتني أمي اليوم عندما أيقظتني وهي تصيح: «انهض واشتر لنا اللحم والدجاج قبل أن ينفذ! هذا شهر رمضان «مش» لعبة.
ضحكت وأنا أتخيل كيف كانت تبدو وهي تقول رمضان «مش لعبة». أرملة حيّنا المقتصدة المدّبرة تفقد اتزانها في الشهر الفضيل هي الأخرى!
نعم يا أم مصطفى، دعي روائح الطعام الشهي تفوح من بيتك وكوني قوية ولا تنكسري لشيء، وكما تقولين: «رمضان مش لعبة»، والحياة أيضًا ليست لعبة.
محمد العداربة، هيئة التحرير
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.