يحدث أن ننسى موعدًا مهمًا، وقد لا نتذكر أخذ وثائق ضرورية لاجتماع عمل، وربما نعجز عن تحديد مكان مفتاح السيارة، فنحرق طاقتنا وأعصابنا ودقائق من يومنا في البحث عنه، ويتكرر أن نقابل شخصًا ولا تسعفنا ذاكرتنا في استحضار اسمه، وقد ننسى شراء الخبز لوجبة العشاء..عندها نرمي النسيان بكومة أحجار!
من منا لا يتذمر من النسيان؟ لا شك أن عدم القدرة على تذكر مثل هذه الأمور ينغّص حياتنا ويقلل من أدائنا ويحرمنا من فرص قد لا تتكرر.
لكن هلّا توقفنا لحظة وتصورنا حالنا لو لم يكن الدماغ البشري مهيأ لحذف بعض الأحداث والأشخاص والتجارب من الذاكرة! لو كنتَ تقود سيارتك في الطريق للعمل و«سقط» سائق السيارة في المسار المجاور على مسارك فجأة دون تنبيهك بإشارة ضوئية ومنحك عدة ثوان لتسمح له بالدخول للمسار فكدت تصطدم به، وكما يحدث في مثل هذه المواقف سيضخ جسدك الأدرينالين وتدخل في حالة من الغضب وفقدان التحكم في أعصابك، وربما يتطور الأمر إلى الاشتباك مع ذاك السائق بمشادة كلامية ترفع لديك مستوى السكر والضغط.
تخيل لو أنك لم تنس ما جرى بعد ساعة أو اثنتين، كيف سيكون يومك؟ وماذا عن أدائك؟ وماذا سيحدث لقلبك ولنفسك لو استمر هذا الوضع النفسي والجسدي؟
في العمل، سلّمتِ التقرير الذي بذلتِ فيه جهدًا كبيرًا وسهرتِ عليه لساعة متأخرة من الليل فقابلتكِ مديرتكِ والاستياء بادٍ على وجهها والاتهام بالتقصير يلون كلماتها، كيف سيكون حالكِ خلال ساعات العمل المتبقية؟ وما مستوى إنجازك لأعمالك ذاك اليوم لو لم تمسحي من ذاكرتك تعابير وجهها ونبرة صوتها والحوار الذي دار بينكما؟ وكيف سيكون حالكِ وأنتِ ترينها كل يوم وذاك الموقف والمشاعر التي استحثها مطبوعة في دماغك؟
اتصل بكَ مدير مدرسة ابنك ليخبرك أن ابنك تشاجر مع زملائه وأنك مطلوب لمقابلة المرشد. تذهب للمقابلة وأذيال الخيبة تصحبك وتسمع محاضرة في أصول التربية وعواقب إهمال الأبناء، ولا مفر من حسم درجات سلوك الابن لهذا الفصل الدراسي.
بأي تركيبة نفسية ستلقى ابنك يومها؟ وما شكل علاقتك بابنك في اليومين التاليين؟ وهل ستحضر حفل تخرجه من الجامعة وأنت تحمل بين مشاعرك خيبة الأمل التي أحدثتها تلك الحادثة والمقابلة التي تبعتها؟
صديقتكِ الأقرب لقلبك ابتعدت فجأة دون تفسير لسبب الغياب. تركتْ فراغًا كبيرًا في حياتكِ وملأتْ صدرك مشاعرُ الأسى والوحدة. كيف ستكملين حياتكِ وصخرة الخيبة تجثو على صدرك؟ ما احتمالية إقبالكِ على تكوين صداقات جديدة وذكرى ذاك الألم متشبثة بذاكرتك؟
توفي قريب عزيز على قلبك، كيف ستكون حياتك لو استمرت حرقة مشاعر الفقد وغيمة الكآبة السوداء تخيم في أركان نفسك؟ هل ستجد السعادة طريقًا لنفسك المثقلة بذكريات اللقاءات التي جمعتك مع القريب الراحل، الضحكات التي تشاركتموها، الجدالات التي فرقت بينكما ثم الاشتياقات التي أعادت حبال الوصل والود؟
هناك بيت من الشعر سمعته في الصغر لكنه عاش معي عمرًا: ولولا نعمةُ النسيان فينا/ لولولَ في جوانبنا السعيرُ. نعم، للنسيان وجه محمود، بل إن النسيان يمكن أن يصبح نعمة عظيمة عندما يغسل خيباتنا ويربت على آلامنا ويداوي جراحنا، فيصبح بلسمًا يقودنا لهدوء النفس وترياقًا يوصلنا لمساحات الصفو التي لا غنى لنا عنها.
صباح عبدالكريم عيسوي: كاتبة وأكاديمية في مجال دراسات أدب الطفل.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
