المتأمل في تاريخ الكتاب باعتباره أحد منتجات الحضارة الإنسانية منذ انبثاقته الأولى زمن الألواح الطينية في بلاد الرافدين، مرورًا بأزمنة الكتابة على الجلد والخشب والعظم، وصولًا إلى المنعطف الأعظم في تاريخ الكتابة الذي دشنه اختراع المطبعة، حتى آخر ما أُنتج من أجهزة القراءة الرقمية وألواحها وتقنياتها؛ المتأمل في ذلك كله يجد أن الكتاب كغيره من معطيات الحضارة، مرّ بتطورات متلاحقة توخت دائمًا الجمع بين اتساع هذا الوعاء المعرفي ويسر التعامل معه، وظل ذلك يتم وفق إمكانات يسيرة حتى شكّل اختراع المطبعة أهم انقلاب أسهم في المزيد من انتشار الكتاب وتداوله.
وما تزال الحقبة الورقية حاضرة على نحو كبير إلى وقتنا هذا، رغم مزاحمة المنتج التقني الذي أسهم في تلاشي كثير من أوعية ومنتجات حضارة ما قبل اللحظة الرقمية، إلا أن صمود الإناء الورقي وفق ما يؤكده اتساع رقعة المكتبات ومعارض الكتب وأرقام المبيعات وحجم التداولات التي ما تزال في المستويات المطمئنة للمسكونين بعشق الورق وروائح الحبر؛ كل ذلك يطرح التساؤلات عن إخفاقات التقنية التي لم تبرح أن تكون حضورًا موازيًا إلى جوار الكتاب التقليدي دون إقصائه أو زحزحته كما صنعت في مواضع أخرى، مع كل إمكاناتها وبهرجها، والمعول عليه في الإجابة تلك النوستالجيا العميقة التي غرسها الورق في الأرواح على مدار قرون خلت، أنتجت بدورها نسقًا حضاريًا يقيم من الكتاب ضرورة حياة حين لم تكن الكتب إلا حِزمًا من الورق، ليشكل ذلك ارتباطًا وثيقًا في اللاوعي العميق للإنسان بين التحضر والكتاب الذي لا صورة له آنذاك إلا قالبه الورقي العتيق.
مثلما أن الامتداد الزمني للحقبة الورقية أنتج بدوره أنماطًا من الحياة يشكّل فيها الكتاب إلى جانب قيمته المعرفية جانبًا من الديكور الحياتي، فمثلت المكتبات وخزائن الكتب ركنًا رئيسًا في معمار الحياة المعاصرة في شكل من أشكال التماهي بين الكتاب والحياة ضمن تفاصيل الواقع المعيشي للإنسان، على نحو يصعب معه على الزمن التقني الفصل بينهما.
كذلك فإن كثيرًا من أشكال التقنية المعاصرة تُصنف لدى الإنسان ضمن بنود الترفيه ومتطلبات التسلية، بينما يحضر الكتاب في الذاكرة الجمعية قرينًا للثقافة الجادة والوعي المختلف الذي يستهجن أن يرى وعاء حضارته مجرد أيقونة تائهة في زحام التطبيقات واتساع الشاشات المتخمة بالسطحي والعابر المستهلك.
فضلًا عن أن «ذاكرة السمكة»، التي تشكّل العنوان الأظهر للحقبة الرقمية؛ أسهمت في مزيد من تعزيز موثوقية الكتاب الورقي لدى قارئه بعد أن بقي الحبر أوثق عرى الذاكرة، ونهض الكتاب بمهمات التوثيق طوال الزمن الذي مضى. ولأجل ذلك فالمؤكد أن رائحة الحبر ستظل- ولوقت طويل قادم- الجسر المتين القائم بين الكتاب والذاكرة، والعلاقة الأجمل في التاريخ الممتد من اللوح إلى اللوح!
محمد الراشدي، كاتب وناقد سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.