تزامن الإعلان عن اكتشاف خمسة حقول غاز جديدة مع الاحتفالات الوطنية بيوم التأسيس فاختلطت مشاعر الفخر بمشاعر الأمل، وامتزجت عراقة الماضي برحابة المستقبل، وتضافر الإرث التليد بالآمال العظمى.
ولعل المتأمل في أسماء هذه الحقول سيلحظ تلك الفرادة التي تميز أسماء حقول النفط والغاز؛ فأسماؤها مستمدة من صميم المكان، ضاربة أطنابها في أعماق التاريخ: الجافورة والسفانية والغوار ومزاليج وشدون وشدقم .. إلخ.
هذه الأسماء العريقة أشبه ما تكون بلقىً أركيولوجية منثورة على أديم الصحراء، فهي شواهد وعلامات على حضارات عريقة موغلة في القدم نستنطقها فتدهشنا أيّما دهشة، وتعجبنا أيّما إعجاب.
شدقم على سبيل المثال اسم يبلغ عمره قرابة ١٦٠٠ عام، ويطلق على الهضبة العريضة ناعمة الرمل متناثرة الحصى الواقعة جنوب غرب بقيق الملتحمة بهضبة الصمان الممتدة شمالًا حتى حدود العراق.
تحوي هذه الهضبة الواسعة عددًا هائلًا من المنخفضات التي تتجمع فيها سيول الأودية المجاورة مشكّلة قيعانًا وخباري وفِياضًا طبيعية، الأمر الذي يجعلها موئلًا للحياة الفطرية ومرعى زاخرًا لرعاة الإبل منذ القدم.
ولعلها اكتسبت هذا الاسم لأنها كانت مرعى للفحل الشهير «شدقم»، فحل الملك النعمان بن المنذر ملك المملكة العربية التنوخية القديمة المعروفة أيضا بدولة المناذرة (٢٦٨ -٦٣٣م)، التي كانت مدينة الحيرة جنوب العراق عاصمة لها، والممتد نفوذها على كامل الجزء الشرقي من جزيرة العرب من أقصى حدود العراق شمالًا حتى سواحل عمان المطلة على المحيط الهندي جنوبًا بتمركز حضاري في هجر والبحرين وساحل الخليج العربي.
وفي بحث رصين من إصدارات دارة الملك عبدالعزيز بعنوان (الإبل: أسماؤها-أوصافها- طباعها) يخبرنا الباحث فوزان الماضي أن هذا الفحل الشهير اكتسب اسمه المميز «شدقم» لأنه كان عظيم الرأس واسع الأشداق، وهذه من الصفات المرغوبة في الإبل ولا تزال معيارًا مهمًا للفوز في مهرجانات مزاين الإبل في الوقت الراهن.
وتنسب لهذا الفحل تلكم السلالة النجيبة المساة «الشدقميات»، التي امتدحها الكميت بن زيد الأسدي، فقال:
غُريرية الأنسابِ أو شدقميّةٌ
يصلن إلى البيدِ الفدافدِ فدفدا
أما أبو تمام فيصفها في ميميته الشهيرة، فيقول:
بالشدقمياتِ العتاق كأنَّما
أشباحُهَا بَيْنَ الإِكامِ إكامُ
أما من الشعر النبطي فيقول محسن الهزاني:
شدقميات هجاهيج هجان
للبعيد من الفيافي مدنيات
ولعل التناص واضح بين هذا البيت وبيت الكميت الأسدي أعلاه، فكلا الشاعرين يتفقان على أن لا شيء يطوي بُعْدَ الفيافي الجرداء ويُدني أطرافها كالشدقميات النجائب.
أما في عهد المملكة العربية السعودية الميمون فإن معمل غاز شدقم يربض على مناكب تلك الهضبة الشامخة معالجًا الغاز المستخرج من باطنها، مسهمًا في تغذية شبكة الغاز الرئيسة التي يبلغ حجم إنتاجها أكثر من ١٧ مليار قدم مكعب قياسية في اليوم.
هذا المعمل «الفحل» مع بقية المعامل الفحول لا تطوي المسافات كما كانت تفعل الشدقميات، بل تجتاز الأزمنة، وتطوي التاريخ والحقب الحضارية لتقفز بالمملكة لمصاف الدول العظمى بالسواعد الوطنية الفتية، ورؤية ٢٠٣٠ الفذة.
عبدالإله القحطاني، قسم النشر.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها. cw@exchange.aramco.com.sa