يُقال، والعهدة على الراوي، إن بلدًا باردًا مثل آيسلندا يعيش في صقيع الثلج شهورًا ممتدة من السنة، يملك أكبر نسبة من الروائيين قياسًا إلى عدد السكان، ويرجع البعض ذلك إلى الجو قارس البرودة، الذي يفرض على الناس المكوث في بيوتهم لفترات أطول، مقارنة بسكان البلدان معتدلة الطقس، الذي يشجعهم على الخروج إلى الأماكن المفتوحة، ما يجعل من حصة الترفيه في حيواتهم أكبر.
يلزم الكتابة عامة، الإبداعية منها والبحثية، درجة من العزلة، التي تتطلب ما يشبه الانطواء على النفس والمكوث طويلًا في المكان الذي يختاره الكاتب للكتابة، على الأقل فترة إنجاز ما يعمل الكاتب على إنجازه، وغياب محفزات الخروج إلى الشارع وإلى المقاهي المفتوحة بسبب الجو البارد، ييسر له ذلك، على نحو ما يقول المثال الآيسلندي.
لكن ليست الكتابة وحدها من تـتأثر بالجو البارد، وإنما القراءة أيضًا، فهذا الجو يوفر للشغوفين بالقراءة البيئة المناسبة لكي ينصرفوا إلى القراءة بنسبة أكبر من تلك المتاحة للعائشين في البلدان ذات الجو الدافىء أو الحار، وبالنسبة للذين تأسرهم قراءة الأدب الكلاسيكي العالمي سيجدون أنفسهم في مناخ الأجواء الباردة، انطلاقًا من حقيقة أن معظم هذه الأعمال عائدة إلى كتّاب أوروبيين ينتمون إلى بلدان باردة غالبية شهور السنة.
ولو أخذنا الأدب الروسي الكلاسيكي مثالًا، فسنرى أن قراءتنا لديستوفسكي وتولستوي وتورغنيف وتشيخوف وغوغول وسواهم من عمالقة الأدب الروسي، ستجعلنا نعيش أجواء البرد والثلج التي تدور أحداث هذه الأعمال الأدبية فيها، بل إن واحدًا من أهم هذه الأعمال الأدبية تحمل اسم (المعطف) لمؤلفها غوغول، التي عنها قيلت عبارة: «كلنا خرجنا من معطف غوغول»، على لسان كبار مجايليه من أدباء روسيا في القرن التاسع عشر، ولسنا في حاجة لشرح العلاقة بين المعطف والشتاء.
لن ينجو الموهوبون في الكتابة من أبناء وبنات البلدان الدافئة من تأثير هذه «الأجواء الباردة» التي أعاشتهم قراءتهم للأدب الكلاسيكي الغربي فيها، حين ينصرفون إلى الكتابة، وفي هذا الشأن تستوقفنا شهادة للأديبة النيجيرية تشيمامندا نغوزي أديتشي عن تجربتها في الكتابة الروائية، حين أشارت إلى أنها في بداياتها الكتابية كتبت قصصًا من نوع القصص التي تقرأها تمامًا، «إذ كانت كل شخصياتي بيضاء البشرة وزرقاء العينين. كانت الشخوص تلعب بالثلج، وتأكل التفاح، وتتحدث عن الطقس وروعة سطوع الشمس»، رغم أنها تعيش في نيجيريا ولم تسافر خارجها أبدًا؛ «فلا يهطل فيها الثلج، ونحن نأكل المانغو ولا نتحدث عن الطقس أبدًا، لأنه ليس ثمة ضرورة».
لزم الكاتبة بعض الوقت كي تغادر هذه الأجواء الغريبة على البيئة التي تعيش فيها، فحين اكتشفت الكتب الإفريقية خضعت لتحوّل عقليّ في رؤيتها للأدب، حين أدركت أن أشخاصًا مثلها «فتيات بشرتهن لها لون الشوكولاته، واللاتي لا يمكن عقد شعورهن المفلفلة على هيئة ذيل حصان، يمكن أن يظهرن في الأدب أيضًا». فبدأت الكتابة عن أمور تعرفها.
د. حسن مدان: كاتب بحريني.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.