من غير المتصور أن يكون إحساس المرء ببيته مساويًا لإحساسه ببيت عبر يومًا من أمامه، ولا يمكن أن يتساوى إحساسه بغرفته مهما كانت متواضعة مع إحساسه بغرفة فندقية مهما كانت فخامتها.
لكن البشر درجات في تعلقهم بأشيائهم، ما بين أولئك الذين يسهل عليهم التخلي دون رفة جفن، وأولئك الذين يتمسكون بأشيائهم بشكل مَرَضي، ويحتفظون بالتالف وعديم النفع منها، إلى الحد المُعوِّق الذي أسمته البريطانية كارين كينجستون «عبودية الكراكيب»!
نال كتاب كينجستون شعبية كبيرة، وتصوره كثيرون صيحة إيقاظ لمن يكبلون أنفسهم بجثث أشيائهم. ومع ذلك يجب أن تظل دعوته في حدودها كتنبيه للمهووسين بالتملك، لأن المبالغة في مديح فكرة التخلي تجرنا إلى الضد تمامًا، إذ تلتقي هذه الدعوة للحرية من الأثقال مع أفكار التسويق الدعائية، التي تستهدف دفع البشر إلى الاستهلاك، وتنتهي إلى إيقاعنا في الأسوأ، أعني سطحية العيش.
مبدئيًا، يجب الاعتراف بأن حطام الأثاث والأجهزة المنزلية التالفة على الأسطح، والملابس التي تنتقل من رفوف خزائننا إلى حقائب تحت الأسرة أو مخازن أسفل البيت وأعلاه، لا تعكس تعلقًا روحيًا بقدر ما تعكس رغبة غير واعية في الامتلاك؛ والامتلاك بدوره علاقة سطحية تختلف تمامًا عن الحُب، فالحب يقتضي المحافظة وتجديد العهود، وعندما نحب كرسيًا مثلًا، يجب أن يدفعنا الارتباط النفسي به إلى صيانته ليكمل وجوده سعيدًا في فضائنا الحميم، لا أن نحتفظ بجثته في قبر مغطى أو مكشوف تحت المطر والشمس!
كان الفراعنة يحرصون على دفن أشيائهم معهم بما فيها المجوهرات، ما جعل قبورهم مطمعًا للّصوص والمستكشفين، الذين أزاحوا لنا التراب عن حضارة عظيمة لم تزل أسرارها تتكشف يومًا بعد يوم. والمستقر في كتابات علماء الآثار المصرية أن صحبة الأشياء كان بدافع الاستمتاع بها في الحياة الآخرة بعد البعث، وليس علينا أن نطمئن إلى هذا الطرح تمامًا، لأن من شيَّدوا هذه الحضارة كانوا بالتأكيد يدركون أن ما يدخل قبورهم من زاد محدود لا يكفي لإعاشتهم في حياة أبدية.
لقد عرف الفراعنة الرمز، بل إن حضارتهم تقوم على مستوى عالٍ منه، وقد زينوا مقابرهم برسوم لكل طيبات حياتهم الأولى من طعام وعطور وزهور؛ والرمز لا نهائي، يشير إلى قدرة لا محدودة، ستحيل هذا الطعام الرمزي في النقوش إلى موائد لا تفنى.
وهكذا، من حقنا أن نفكر بالدافع العاطفي، لا النفعي، لوجود الذهب والغلال والخبز الحقيقي في المقابر. من الوارد أنهم كانوا يتعاملون مع أشيائهم بتلك القوة العاطفية التي نحملها لأشيائنا. الأشياء جزء من الحياة التي عشناها، ورحيلها مع الشخص إلى باطن قبره إصرار على استمرار الصحبة، ببساطة لأنها جزء من ذاته. وقد ترك لنا الفراعنة بهذه الطريقة متاحف مؤجلة.
وربما إلى هذه النظرة للأشياء تدين فكرة المتاحف بوجودها، حيث صار الاحتفاظ بالأشياء جزءًا من كينونة جماعة بشرية أو كينونة شخص، وليست جزءًا من التاريخ، فتاريخ الجماعات تحمله كتب التاريخ بكفاءة، وتاريخ الأفراد المميَّزين يحمله ما تركوه وراءهم من فن. وإذا ما عدنا إلى التفريق الفلسفي بين «الروح» كوجود مطلق و«النفس» كوجود محقق في الحياة الدنيا، نجد أن روح المبدع تسكن فنه، بينما تسكن نفسه في الأشياء التي رافقت حياته. تجارب زيارة المتاحف الشخصية تؤكد لنا ذلك حيث نخرج بإحساس التواصل الشخصي مع صاحب المتحف، فهذه المتاحف تقوم على أشياء حقيقية، دون أن يخلو الأمر من بعض الزيف بإضافة أشياء لإكمال العرض المتحفي!
عزت القمحاوي، كاتب وروائي مصري
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.