ثمة أفكار ومفاهيم واستعارات باتت مرتبطة بالترجمة ارتباطًا حتميًا وربما قسريًا، بحيث يصعب التفكير في الترجمة أو الخوض في حديث عنها أو الكتابة حولها دون أن تتداعى مثل تلك الأفكار والمفاهيم والاستعارات إلى الذهن، كالقول بأن الترجمة بمثابة «الجسر» الذي يربط بين الثقافات والحضارات والأمم، وإن فُرِّغت هذه المقولة من بعدها الاستعاري لتصبح حقيقة وواقعًا لا يرتقي الشك إليه؛ أو القول بأن الترجمة خيانة للنص الأصلي، مهما كانت دقة الترجمة ومهارة المترجم، وإن ارتبط ذلك أكثر بالنص الإبداعي الأدبي الذي هو بطبيعته منفتح على التأويل وتعدد المعاني وتداخل الظلال.
وبعيدًا عن جدل جِدّة التعابير المتعلقة بالترجمة أو قدمها، فقد كانت الترجمة وستبقى وسيلة للتعارف بين الشعوب والتقريب فيما بينها ولنقل المعرفة من طرف إلى طرف، ومن جهة إلى أخرى، حتى صح لنا القول إن الترجمة «فرض عين حضاري» على كل أمة تريد مواكبة مستجدات العصر المعرفية والعلمية.
وغني عن القول إن الطرف الذي يصنع المعرفة وينتجها له اليد العليا في ثنائية المُترجِم والمُتَرجَم له أو منه، فالسلطة المعرفية التي يتمتع بها تدفع الآخرين للنهل من معارفه والاقتباس من أنواره، وهذه العلاقة كما يخبرنا التاريخ ليست ثابتة الأطراف أو ذات طابع مؤبد بطبيعة الحال؛ فالعرب على سبيل المثال مروا بمرحلة حضارية متطورة جعلت منهم قطبًا معرفيًا ومركزًا منتجًا لشتى ضروب المعارف والعلوم الإنسانية والطبيعية، بحيث كانت الترجمة عن اللغة العربية، بالنسبة للأوربيين على سبيل المثال، أمرًا لا مناص منه لمواكبة مستجدات المعرفة والعلوم والفلسفة، بل إن الغرب لم يتعرف على جانب كبير من تراثه الفلسفي الإغريقي إلا عبر الترجمات العربية له على يد ابن رشد وغيره من الفلاسفة العرب.
ولأن الزمن مثل النهر المتدفق الذي لا يتوقف ولا يلتفت إلى الوراء، فقد تقدمت أمم وتراجعت أخرى وهيمنت لغات وتقهقرت أخرى، ولشديد الأسف تراجع العرب والمسلمون وكفّت العربية تبعًا لذلك عن أن تكون لغة استقطاب معرفية على مستوى العالم، وبات محتمًا علينا نحن العرب محاولة مواكبة المستجدات المعرفية والعلمية عبر ترجمتها إلى لغتنا التي أصابها الضعف بضعفنا وأدركها الوهن بوهننا.
غير أن الصورة ليست قاتمة تمامًا، وهناك بوارق من الأمل تلتمع على امتداد خارطة الوطن العربي عبر مشاريع الترجمة التي تنشط في عدد من البلدان وعبر عدد من المشاريع المكرسة للترجمة على صعيد المؤسسات الثقافية الكبرى أو حتى عبر الجهود الفردية المخلصة. هناك على سبيل المثال ترجمات الهيئة المصرية العامة للكتاب، والمنظمة العربية للترجمة، وسلسلتا عالم المعرفة وإبداعات عالمية اللتان تصدران عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، ومشروع كلمة المنبثق من هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، ومشروع نقل المعارف التابع لهيئة البحرين للثقافة والآثار.
على الصعيد المحلي، أُسست هيئة الأدب والنشر والترجمة في فبراير من عام 2020م للقيام بإدارة قطاعات الأدب والنشر والترجمة وتنظيمها بوصفها المرجع الرسمي لها في المملكة، ويُنتظر من الهيئة الكثير في مجال الترجمة خاصة بوجود طاقات وطنية فردية نوعية جيدة تحتاج للرعاية والدعم والمساندة. وقد أطلقت الهيئة بالفعل عددًا من الفعاليات والمبادرات في هذا الشأن، مثل مبادرة «ترجم» بمساريها لمنح الترجمة والدوريات الأكاديمية، وملتقى الترجمة الذي أطلق بنسخته الأولى مطلع هذا الشهر.
فضلًا عن ذلك، برزت مؤخرًا عدد من المنصات ودور النشر التي تولي اهتمامًا كبيرًا للأعمال المترجمة النوعية، مثل منصة معنى ودار أثر ودار أدب، وقد حققت مطبوعاتها نجاحًا كبيرًا وحظيت بإقبال واسع خلال معرض الكتاب الدولي في الرياض هذا العام. وليس من المستبعد في ظل ما تشهده بلادنا من تقدم على كافة الأصعدة أن تغدو المملكة أكثر منارات الترجمة توهجًا على امتداد العالم العربي كله.
عبدالوهاب أبو زيد، شاعر ومترجم سعودي.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.