يمكن التعامل مع مضمون هذا الكتاب باعتباره تأملًا فلسفيًا لفكرة "المسافة"، ومفاهيم القرب والبعد والحدود بينهما من جوانب عديدة ليس من المعتاد الوقوف عندها، والنظر فيها لسبب أساس هو أنها حاضرة دومًا في حياتنا اليومية وبشكل فعلي لدرجة أننا لا نلتفت إليها كثيرًا رغم أهميتها في تعيين وجودنا في علاقتنا بالآخرين وبالأشياء المحيطة بنا، ويحمل هذا العمل الذي كتبه الباحث العراقي ياسين النصير عنوان "كتاب المسافات، مقاربة في جدليّة القُرب والبُعد".
يشير المؤلف في المقدمة إلى أن كتابه يُعنى بدور المسافة في أنساقها المختلفة، المعرفيّ والتخيليّ والدلالي، ويقارن بين أنواعها المختلفة، فهناك المسافة الشخصية والمسافة الاجتماعية والمسافة الجماهيرية العامة، والمسافة بهذا التوجه "تحتوي العالم الحياتي كله".
"ما نفكر به وما نتخيله، وما هو في الأعالي وما هو في الأعماق". يوضح الكاتب، أن التصور النسبي يظل حاكمًا عند التعامل مع هذا المفهوم لأن تحديد ما هو قريب وما هو بعيد يتوقف على الوضعية التي عليها الشيء المقصود قياسًا بدرجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه. يقول الكاتب: "إن للشيء أبعادًا مختلفة، بحيث تتغير نسب الرؤية له لوجود الاختلاف، وإن بدا لنا الشيء حجرًا متماسكًا، أو ماء سائلًا أو هباءً في الهواء، او نارًا في بركان، فهو شيء متناقض المسافات عندما تتعدد رؤاه".
وينقسم الكتاب إلى مجوعة مباحث رئيسة يعالج كل منها تصورات نظرية خاصة بمفهوم المسافة، كما وردت في عدد من النصوص الإبداعية، أو كما تجلت في مجموعة من الممارسات الحياتية منها ما يتعلق بالنسق الفلسفي الذي يتعامل معها باعتبارها موضوعًا "لا مُفَكر فيه" أي بوصفها المجال الذي لا تتم رؤيته في الشيء، ويفلت من إمكانية الرصد المنهجي له، ومنها ما يرتبط بالتخيل الذي ينظر إليها باعتبارها "استعارة" ومجازًا، ثم ثمة مبحث عن النسق الدلالي للمسافة وحدودها، ثم آخر عن "مسافة الحياة اليومية". ولعل هذا المبحث الأخير أكثر ما يميز معالجة مفهوم المسافة كما جاءت في هذا الكتاب، لأنها تنظر إليه باعتباره جزءَا أساسًا من الوجود البشري ذاته.
نقرأ فيه مثلا عن "سطح الطاولة" كأنموذج للمسافات التي نقيس بها كل أفعالنا اليومية، فسطح الطاولة بمسافاته المتباينة هو في الواقع، وكما يذكر الكاتب، المسرح الذي تدور عليه كل الأحداث المجتمعية ومن خلال هذا التباين يتواصل البشر معًا ويتحاورون، فيتفقون أو يختلفون، ونفهم في هذا المبحث أيضًا كيف يكون الإحساس بالمسافة أوضح في الأماكن المنفرة مثل طاولات غرف انتظار السكك الحديد والتي تكون المسافة فيها "تكوينًا حاسمًا" للعزل بين الناس، فهم ليسوا إلا غرباء جمعهم السفر. وهكذا ومن خلال مباحث هذا العمل نتبين كيف تلعب المسافة دورًا في فهم الإنسان لذاته وللمجتمع، فالإحساس بالمسافات الداخلية للمكان يُعيد، حسب كلمات ياسين النصير، "بناء أنفسنا في العالم" ومن خلالها يمكن توصيل ما نريد، ونعرف من خلالها "حدود الشخصيات وحدود الأحداث".
العنوان: كتاب المسافات، مقاربة في جدلية القُرب والبُعد"
تأليف: ياسين النصير
الناشر: دار نينوى
عام النشر: 2021م
عدد الصفحات: 228 صفحة
ردمك: 6-263-38-9933-978