لا أكاد أحصي عدد المرات التي طُلب إليّ فيها أن أكتب مقالًا لصحيفة أو مجلة، أو أن تكون لي زاوية في صحيفة من الصحف أكتب فيها مقالات بصفة دورية، وما لا يعرفه الكثيرون -عني على أقل تقدير- أن هذا الطلب بالنسبة إلي أشبه بمن يطلب منك تحديد اتجاهك في صحراء مظلمة ألقي بك فيها فجأة من مكان عليّ!
أشبه بسفر من غير خطة، أو تحديد وجهه، أن تسير فقط ..من أين؟ لا تدري! وإلى أين؟ كذلك لا تدري..المهم أن تسير وكفى!
على أن السير على غير وجه في مثل هذه الحالة أهون من كتابة مقال، ووجه المقارنة أنك في هذه الصحراء تقف على أرض تُقِلُّ قدميك، بينما في حالة الكتابة فإنك تكون معلقًا، فما من أرض تُقلّك ولا من سماء تظلك، فتبحث عن أرض أثبت لتقول كما قال بشر بن عوانة في مقامة الهمداني مخاطبًا مُهره:
أنِل قدميّ ظهرَ الأرض إني
رأيتُ الأرضَ أثبتَ منك ظهرا
اكتبْ مقالًا! أشبه بـ «اصعد بحرًا»، أو «اشربْ نجمًا»، أو عبارة لا يمكنك الإمساك بمدلولها وهي في غير سياق يعينك على ذلك، حتى لو ركبت أرض ما بعد الحداثة حيث لا قيمة للسياق ولا للمعنى.
إنه طلب بالنسبة لي غريب وغريب جدًا، وكم من ليلة بت أقلّب فيها الطَرْفَ لأكتب مقالًا في صحيفة أو مجلة طلبت مني ذلك، وما استطعت ردّها لمكانة من طلب في قلبي. تُرى ماذا أكتب؟ من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟
إنها فعلًا معضلة، ولا أعتقد أنها معضلتي وحدي، وسبق أن تحدثت بها إلى مجموعة من الأصدقاء النابهين، فاكتشفت أن بعضهم يعتقد أن باستطاعتك الكتابة كما تشاء لأنك تملك مخزونًا جيدًا من القراءة المتخصصة والمتنوعة، وأنه بمجرد إمساكك للقلم ستحط عليك الكلمات كأسراب القطا!
وما زلتُ والله في أشد العجب من الأصدقاء الذين يكتبون في كل يوم مقالًا في زاوية صحفية، وسبق أن ثرتُ في وجه عدوي الصديق عبدالله المزهر (سهيل اليماني):
من أين تأتي بكل هذه الأفكار لتكتبها كل يوم؟!
ولأنه كعادته لا يملك جوابًا، تمتم بمقولته الشهيرة «أمر الله من سعة».
وصحيح أن أمر الله من سعة، ولكن هذه السعة تضيق كما ضاقت على مولانا النفري، حين قال: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؛ فاصطياد الأفكار عملية ليست بالسهلة إطلاقًا، إلا على شخص يعتقد أن الهذر المجرد يمكن أن يكون شيئًا مفيدًا، وقديمًا قال سويد بن كراع يصف حالة تتبعه للمعاني والأفكار في هجعة الليل الأخير وهو يحاول كتابة قصيدته:
أبيتُ بأبواب القوافي كأنما
أُصادي بها سربًا من الوحش نُزّعا
أكالئها حتى أعرّس بعدما
يكون سُحيرٌ أو بُعيدَ فأهجعا
لمثل ذلك ولغيره من الأسباب التي قد أكتب عنها لاحقًا، تكمن الصعوبة القاتلة في فكرة أن تكتب مقالًا!
عبدالله السفياني: مدير موسوعة أدب وعضو مجلس الشورى السابق.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية