بني العزيز.. أنا الآن أكمل عشرين عامًا من الركض اليومي باتجاه ساحة العمل، أنظر إلى الطريق الذي تكرر أمامي آلاف المرات، وأسأل نفسي كم من الوقت سأبقى رفيقًا لهذه المناظر اليومية. الدرب الذي كان يبدو طويلًا، صار يقصر أكثر فأكثر، لم يكن في مخيلتي يومًا أني سأصل إلى النهايات الوظيفية بهذه السرعة، تمامًا كما الأطفال الذين يكبرون بسرعة في غفلة من الوقت، لكنهم يحافظون على صور الطفولة في وجداننا، فندس في جيوبهم كثيرًا من الأحلام التي ادخرناها لهم.
في الأثناء، ستحلم أنت بأن تزيد إلى عمرك سنوات أخرى، من أجل أن تحظى بمزيد من الامتيازات، وتهرب من جدران الدرس، وتدخل في رتابة العمل. في عينيك كثير من الأمنيات التي تعتقد أن الوظيفة ستجلب المال الكافي لتحقيقها. ولا أخفيك بأني أحلم كما تحلم، لكن بنحو يعيد إلى رصيدي بعضًا من العمر الذي مر، أحلم بأن أنهض من الصباح الباكر لألتقي الأصدقاء في باحة المدرسة، وفي جيبي ريالات زهيدة أمدها لبائع المقصف المدرسي، كي أحظى بفطيرة تهبني الشبع بقية الصباح. أحلم برائحة الطباشير، وصوت الصافرة الأخيرة، وتدافع الصبية باتجاه بوابة الخروج، فهي اللحظات التي أخذتنا ببطء إلى هذه النهايات السريعة.
لكل عمر لحظاته الجميلة التي لا تنسى، تحاصرك متى ما غادرتها ودلفت إلى تجربة جديدة. تضيق بنا الظروف، وتحاصرنا الهموم مرات، لكن الوقت كفيل بإحالتها إلى ذكريات لا أكثر. لعل الرتابة وحدها ما يدفعنا إلى الشعور بالاستيحاش والرغبة في انتخاب وجهة أخرى، فمن ينغمس في سنوات الدرس طويلًا يفكر في اليوم الذي يُعتق فيه ويستريح من قلق الامتحانات، ويلتحق بوظيفة يعتقد أنها نهاية التعب. ومن تطحنه الوظيفة وتعجن مشاعره ومزاجه يظل يقيس المسافة بينه وبين ساعة التقاعد، حتى إذا استراح بات يخشى وحشة الغياب، وانصراف الوقت بلا معنى!
أن تعيش في هذه الحياة يا ولدي يعني أن تهب لوجودك معنى، أن تعطي بقدر ما تأخذ منها، أن تكبر في كل شيء، أن تغرف من نبع كل ما يهبك السعة، سعةً في عقلك وروحك. تزين بحب ما أنت فيه، ولا تفسد الساعات بتأجيل المتعة إلى الغد، فحتى الدروس الثقيلة يمكن أن تكون سببًا للاستمتاع، ساعة نجعلها فرصة لتحدي الذات، والدفع بها لاكتشاف مزيد من أسرارها. لا تُغفل هذا الفرح الذي يطرز كل عتبة تعبرها في هذه الحياة، فكل تعب سيترك وشمًا جميلًا إذا تجاوزناه، عندها كل شيء سيرحل ويبقى لذيذ الذكريات، ونشوة النجاح، ونوافذ نهبها للآخرين كي ينظروا في أثر السعادة التي لا تعرف عمرًا ولا زمنًا ولا مكانًا، بل هي «الآن» و«هنا» دائمًا.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.