رحلة المواد الهيدروكربونية في أرامكو السعودية.. (6)
تركيز النفط الخام.. تلبية متطلبات الجودة ومراقبة الآثار على البيئة
هذه القصة، التي تُنشر في عدة أجزاء، تسلِّط الضوء على ما وراء الستار في رحلة المواد الهيدروكربونية في أرامكو السعودية، بدءًا من المكامن وحتى نهاية الرحلة.
في أفق صحراء الدهناء شرق المملكة، تتلألأ تحت أشعة الشمس قبةٌ معدنية، تتألف من الأنابيب والصهاريج شبه الكروية والأعمدة والصمامات والخزانات.
هذه الرقعة الصناعية ظهرت على وجه الصحراء منذ أكثر من سبعة عقود، وفيها تكمن أكبر منشأة لتركيز النفط الخام في العالم، معامل بقيق.
ومن مسافات بعيدة، يتدفق النفط الخام المعالَج إلى المعامل في بقيق بمساعدة مضخات الضغط، التي تُعينها قوة الجاذبية التي لا تنطوي على الانبعاثات، وذلك عبر شبكة واسعة من خطوط الأنابيب ذات التصاميم الهندسية المتقنة.
ومنذ تاريخ يعود إلى عام 1947م، يستثمر الناس في بقيق فوائد التقنية لعمارة أرض حديثة تمامًا، تشكِّل أعمال التركيز إحدى دعائمها الرئيسة. وقد أسفرت الجذور العميقة للبيئة الصناعية هناك عن ترسيخ ثقافة قائمة على الابتكار في مجال أعمال التشغيل؛ وعلى رأس القائمة في هذا الصدد تأتي الإجراءات الرامية إلى تخفيف الآثار المحتملة على البيئة بأكبر قدر ممكن.
تُرسل مرافق التركيز منتجات النفط بعد معالجتها إلى عددٍ من المرافق الأخرى للمعالجة والتكرير، أو إلى العملاء المحليين وفرض التصدير.
الوفاء بمتطلبات العملاء
النفط الناتج من معامل فرز الغاز من الزيت، أو ما يُعرف بالنفط المعالَج، يتدفق إلى معامل بقيق وهو لا يزال يحتوي أنواعًا متعددة من الهيدروكربونات الغازية خفيفة الوزن، بالإضافة إلى مكونات الغاز المر.
ولا تهدف أعمال التركيز إلى مجرد فصل هذه الغازات عن النفط لنقلها بأمان عبر الأنابيب، بل إنها تشمل كذلك معالجة النفط ليفي بمتطلبات محددة لعملاء أرامكو السعودية.
وهناك ثلاثة مرافق ضخمة في بقيق، هي مرفق معالجة النفط، ومرفق سوائل الغاز الطبيعي، ومرفق المنافع، حيث تعمل هذه المرافق معًا لتركيز النفط، واستخلاص الغازات المصاحبة ذات القيمة، وذلك بهدف إنتاج منتجات قيِّمة.
ويُنقَل النفط المركَّز بالأنابيب إلى كلٍّ من رأس تنورة والجبيل على الساحل الشرقي وينبع في الغرب، بينما تُرسَل الغازات الخفيفة لمزيد من المعالجة في معامل الشركة الأخرى. أما سوائل الغاز الطبيعي فتُرسَل إلى رأس تنورة.
تناغمٌ بين اليد العاملة والآلة
وإلى جانب الغابة الفولاذية الضخمة في بقيق، هناك الهمهمة الصامتة للتفكير المبتكر من قبل الإنسان، الذي يستعين فيه بأحدث الآلات والتقنيات؛ فتشغيل مرفق للنفط والغاز يتطلب عملًا جماعيًا استثنائيًا، والتقنية مرحبٌ بها كعضو في الفريق.
وتُعين البيانات القوى العاملة في بقيق على صعيد تعزيز السلامة والكفاءة؛ وعلى القدر نفسه من الأهمية، فهي تحدُّ من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وفي (مركز الغوار الذكي) في مبنى الإدارة الرئيس هناك، تعمل أجهزة الاستشعار القائمة على الذكاء الاصطناعي وتقنيات التحليل المتقدمة وتعلم الآلة، بعضها مع بعض لتوفير رؤية رقمية شاملة لكافة أعمال الزيت في منطقة الأعمال الجنوبية.
ويساعد جمع كافة البيانات حول أعمال الزيت في منطقة الأعمال الجنوبية على تنفيذ إجراءات إستراتيجية لتعزيز كفاءة الطاقة، والحد من حرق الغاز بواسطة الشعلات.
ويؤدي تحليل نمط التشغيل المتَّبع، مثل التشغيل الآمن لمضخة واحدة بدلًا من اثنتين، في المجمل إلى خفض كبير لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري والتكاليف المالية.
وفي مرفق معالجة النفط في بقيق، تستخدم أعمدة التركيز والصهاريج الجاذبية والحرارة والضغط لإتمام الفصل النهائي للغاز، بينما يقوم مرفق سوائل الغاز الطبيعي بضغط الغاز بواسطة وحدات الضغط، ويمرره من خلال أعمدة استخلاص الإيثان.
إنها عملية معقدة، تخضع للمراقبة عن كثب على مدار الساعة من خلال أعين رقمية وبشرية. كما يعمل المشغلون في الميدان على ثلاث نوبات، يأخذون في كل منها عينات من معدات مختلفة في مرافق معالجة النفط وسوائل الغاز الطبيعي.
ويستخدم نموذج رقمي تنبؤي بيانات العينات عقب تحليلها في المختبر في بقيق، ليضبط تلقائيًا عوامل التشغيل المختلفة للعمليات، وذلك بهدف زيادة كفاءة الطاقة إلى أقصى حد. كما تحدِّد أجهزة التحكم المتقدمة أي خلل يرتبط بكفاءة الطاقة مباشرة، وتساعد على الكشف عن الأسباب الجذرية له، وتُسهم في تحديد الإجراءات التصحيحية الملائمة.
وفي الغرفة الرئيسة للتحكم في الموقع، يراقب المشغلون على مدار الساعة مدى كفاءة الأنظمة الرقمية في تنفيذ قرارات النموذج الرقمي.
يقول رئيس المشغلين، محمد الزهراني: "قد يقرر النموذج أن بالإمكان استخدام كمية أقل من البخار لتركيز قدر معين من النفط".
ويضيف الزهراني، الذي يعمل في معامل بقيق منذ 23 عامًا: "استخدام كمية أقل من البخار يعني استهلاك طاقة أقل، وهذا بدوره يعني تأثيرًا أقل على البيئة".
إنتاج الكثير من القليل
من أجل إنتاج موارد الطاقة لا بُدَّ من استهلاك شيء من الطاقة؛ وفي بقيق تأتي الكهرباء بشكل رئيس من ثلاثة مولدات في مرفق المنافع. إلى جانب ذلك، يوفر هذا المرفق البخار والماء المعالَج من 16 وحدة للتناضح العكسي، بالإضافة إلى الهواء المُستخدم في أجهزة التحكم لضبط الصمامات عبر ضاغطين يعملان بالبخار وثلاثة أخرى تعمل بالمحرك.
وتُستخدم كثافة الطاقة في المرافق الصناعية، مثل بقيق، كمؤشر لكمية الطاقة التي تستهلكها المنشأة لتلبية متطلبات الإنتاج، ويُسهم خفضها في إحداث أثر كبير في حفظ الطاقة. ومنذ عام 2015م، نجحت معامل بقيق في تحسين كثافة الطاقة بنسبة 20%.
ويمكن لتحديث المعدات القديمة أن يحسن كفاءتها؛ ولهذا يجري استبدال أحد محركات توربينات الغاز بوحدة جديدة للضغط بالبخار. هذا التغيير يعني أن البخار يعمل على تشغيل التوربين بدلًا من الغاز، مما يحقق انخفاضًا جوهريًا في استهلاك الطاقة، وبالتالي انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
يقول الزهراني: "على مدار أعوام عديدة، جاورت معامل بقيق المجمع السكني الذي تسكن فيه أُسرنا؛ إننا نحمل على عاتقنا مسؤولية الاهتمام بهذه المعامل، لنضمن إنجاز العمل دومًا على نحو آمن؛ وهذا أفضل للناس وللبيئة على حد سواء".
في مرفق التوليد المزدوج للطاقة بمعامل بقيق، يستخدم رئيس المشغلين، محمد الزهراني، جهازًا يدويًا للكشف عن الميثان، بهدف الكشف عن أي تسربات محتملة لهذا الغاز والغازات الأخرى المتطايرة.
ويُعد الغاز الطبيعي مصدر طاقة تصاحبه انبعاثات كربونية أقل، وهو يتكون بشكل رئيس من الميثان الذي يحتوي على ذرة كربون واحدة محاطة بأربعة ذرات من الهيدروجين.
ويتطلَّب التحكم بالانبعاثات المتسربة للميثان خبرة وحرصًا، فتأثيرها المرتبط بالاحتباس الحراري أعلى بكثير بالمقارنة مع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وفي بقيق، تُستخدم الطائرات المسيَّرة، وأجهزة تحليل الميثان، وأجهزة كشف الغاز من طراز (MX4)، وأجهزة استشعار المستويات المنخفضة من الانبعاثات، وذلك بهدف للكشف عن انبعاثات الميثان وتحديد كميتها.
وتُعد كثافة انبعاثات الميثان في قطاع التنقيب والإنتاج في أرامكو السعودية من بين الأدنى على مستوى القطاع، حيث بلغت نسبتها 0.06 % لعام 2020م.
تمثِّل الطاقة غير المستخدمة هدرًا لموارد ثمينة. ولهذا، يسعى النظام المزدوج لتوليد الطاقة في بقيق إلى استثمار أقصى قدر ممكن من الطاقة في كل قدم مكعبة من الغاز.
ويتطلب تحقيق الكفاءة الحرارية المثلى في أعمال توليد الطاقة مراقبة كمية تدفق الوقود، ودرجة الحرارة المحيطة.
يقول محمد الزهراني: "نسعى لتحقيق الكفاءة المثلى في النظام المزدوج لتوليد الطاقة في بقيق، فكافة التحسينات التي طورتها الجهات المصنعة متوفرة في هذا النظام، ونحن نراقب أعماله عن كثب، لا سيما عند نهاية الصيف، حيث قد تتأثر الأعمال بمستويات الرطوبة العالية".
الحدُّ من حرق الغاز
يُعد حرق الغاز بواسطة الشعلات إجراء عمل ضروريًا للمحافظة على السلامة، حيث قد يتطلَّب الأمر حرق كميات من الغاز للمحافظة على ضغط ملائم في معدات الأعمال.
وفي سبعينيات القرن الماضي، أطلقت أرامكو السعودية برنامجًا للحد من كمية الغاز المُحرَق في أعمال الشركة بشكل كبير.
وكما هو الحال في كافة مرافق أرامكو السعودية، يرتبط نظام الحرق هناك بالنظام الشامل لمراقبة أعمال الحرق في الشركة في مقرها الرئيس بالظهران، حيث تخضع كافة هذه الأعمال للقياس والمراقبة.
وفي معامل بقيق توجد شعلتان مرتفعتان لحرق الغاز؛ وهما مزودتان بتقنية موقِد الحرق عديم الدُخان، التي تساعد على الحد من الانبعاثات بشكل كبير.