يمكن وصف هذا الكتاب بأنه سيرة أدبية للمكان، لكن في الوقت نفسه لا يتوقف مضمونه عند هذا التوصيف، فهو يتجاوزه ليصبح كذلك سيرة ذاتية لمؤلفه ينسجها بقدر من التأمل الفلسفي اللافت. والمكان هنا هو "كافيهات باريس"، والكاتب هو الروائي الفرنسي ديديه بلوند، الذي كتب عشرات الأعمال الإبداعية بين الرواية والقصة القصيرة والكتب الفكرية، وحاز عنها عديدًا من الجوائز الفرنسية، ومنها جائزة جورج براسان التي نالها عن هذا العمل.
ويصطحب بلوند القارئ في جولة ممتعة بين مجموعة متنوعة من المقاهي الباريسية التي كان يرتادها بانتظام، مُسجلًا بدقة ما كان يدور فيها بوصفها أمكنة للتجاور والالتقاء الاجتماعي بين مختلف طبقات وفئات المجتمع الفرنسي، بين بشر تصادف وجودهم في لحظات معينة في "الكافيه" لأهداف متباينة.
وسيتبين القارئ أن ما يتلقاه من سرد شيق عن هذه المقاهي وروادها وكافة العناصر المرتبطة بها لا يخصها فقط، لأن ما يعالجه المؤلف من موضوعات يمكن ملاحظته في أماكن أخرى شبيهة لها الصفة نفسها. وهكذا حين نقرأ ما يكتبه عن "الفاتورة"، أو عن اللافتة التي تحمل اسم النادل أو النادلة، أو عن الباب الدوار، أو عن المرايا، أو عن إنارة القراءة التي تستقر في زوايا المقاهي، ندرك حينها أن الأمر هنا عام ولا يخص مجتمعًا بعينه، بل يعم معناه كافة المقاهي في جميع أرجاء العالم.
وتفيض الكتابة في هذا العمل بصور متلاحقة عن تفاصيل هذه المقاهي لتنقل القارئ مباشرة إليها، فيقرأ عنها وكأنه يوجد فيها بالفعل، يسمع جلبتها وصخبها ويشاهد تحركات شخصياتها التي تؤدي دور البطولة على مسرحها، كالنادلتين مارتا وناديا على سبيل المثال، كما يستوعب بمنظور جديد طبيعة ما تعج به من أشياء مادية ترتبط بهذه الأماكن وجودًا وعدمًا، مثل الطاولة وكوب الماء والكرسي والكنبة.
يكتب بلوند: "أدخل إلى المقهى مثلما أفتح رواية، أبدأ من منتصفها، ألج إلى الحكاية كيفما اتفق، من منتصف جملة عشوائية. الكلمات الأولى مثل الوجوه، بها تكتمل الصورة. إنها وسيلة المقهى لإثارة فضولي، ولكسب ثقتي. أترقب مفاجأة ما، شيئًا ما يجتذبني أو ينفرني". وفي الواقع، تُلخص هذه السطور التي يبدأ بها الكاتب رحلته في مقاهي باريس طريقته الخاصة في السرد، فكتابته أقرب لأن تكون قصصًا قصيرة عن مفردات الأشياء التي يعاينها، والتي تحيط بالكافيهات، لتكتمل فيها كل عناصر الحبكة الكفيلة بجذب القارئ لمواصلة القراءة بنهم واستمتاع.
العنوان: كافيهات، حكايات من مقاهي باريس
المؤلف: ديديه بلوند
ترجمة: أحمد القرملاوي
الناشر: الدار المصرية اللبنانية
عام النشر: 2021
عدد الصفحات: 127
ردمك: 9789777953351