عبق الزهور من سفوح الجبال إلى بطون الأودية..
(رجال ألمع) تأسر زوارها بطابعها التراثي وبسحر الماضي والتاريخ
على بُعد حوالي 45 كيلومترًا غرب أبها، و170 كيلومترًا شمال مدينة جازان، تجد المشهد الساحر لمحافظة جبال ألمع المتربعة في الجهة الغربية من منطقة عسير، والتي تحظى بتاريخ مزدهر يعود إلى أكثر من 900 عام صمدت خلالها قلاعها الحجرية، حيث تحثُّ التفاصيل الصغيرة كل من يزورها إلى التعرف على أهالي القرية ومجالستهم، فهم أحفاد الرجال العظماء الذين سُميت القرية نسبة إليهم بـ (رجال ألمع).
في أحضان السماء، وبين أسوار السحب في أعلى قمم الجبال، تجمع القرية بين العمق التاريخي والثقافة الحاضرة، حيث تتضمن أكثر من 60 بناية حجرية متعددة الطوابق، بُنيت من الحجارة الطبيعية والطين والأخشاب، لتمتد على سفوح جبال عسير، وهي مزينة بنقوش (القَط العسيري).
ولو كان لتلك الحجارة قدرة على الحديث، لأمكنها أن تروي لنا حكايات قديمة عن الشجاعة والشهامة لدى من رصفوها من الأسلاف لتبقى حتى اليوم بهذا المنظر الساحر، وعن التبادل الثقافي والتجاري مع العالم الذي يتخطى حدود القرية وسفوحها، وقصص القوافل والتجار القادمين من مناطق ساحل البحر الأحمر، وعن أهم صناعة عرفتها، وهي صناعة العسل، الذي يعدُّه سكانها غذاءً ودواءً وثروة من ثرواتها.
مركزٌ تجاري مهم
منذ أزمنة بعيدة، جذبت طرق التجارة القديمة الممتدة من آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط التجار إلى منحدر السودة الذي يبلغ ارتفاعه 3000 متر، بغرض التبادل التجاري مع قبائل المدينة، إذ يُمثل موقعها مركزًا تجاريًا مهمًا بالنسبة للبلاد.
وبفضل شجاعة حُماة القرية ورجالها، كان التجار يتمكنون من اجتياز هذه المنطقة وهم محملون بسلع لا آخر لها من طعام وأدوات ومجوهرات، فيما ينتشر من حولهم عبق العطور والبخور ممتزجًا برائحة التوابل.
أربعة فصول في ظهيرة واحدة
في رحلتنا نحو قرية (رجال ألمع)، كان الطقس يتقلَّب ليرسم مشهدًا طبيعيًا رائعًا؛ رياحٌ عاتية، فعاصفة ترابية ساحلية، ورعدٌ يتبعه برق، ومن ثمَّ عاصفة ممطرة تحوِّل النهار إلى ليل، لتنخفض بعدها الحرارة بمقدار 10 درجات في غضون 30 دقيقة. وبينما كنا نقترب من سفوح عسير، كانت أحواض الوادي الحجرية الجافة تتحول إلى أنهارٍ جارية، والمنحدرات تتحول إلى شلالات.
وعندما وصلنا إلى القرية، التي تُعرف في الغرب باسم قرية (كعك الزنجبيل) لأن جدران بيوتها تُشبه كعك الزنجبيل، بدأ النور يظهر مجدَّدًا، وتراجعت السحب لتظهر زرقة السماء مرة أخرى، وانطفأ البرق لتعود الحياة إلى طبيعتها.
تصميمٌ نابض بالحياة
كل مبنى من مباني هذه القرية، التي أُدرجت مؤخرًا في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، تم تشييده يدويًا من الحجارة والطين والأخشاب، ولاتزال هذه المباني ملكًا للأجداد الذين بنَوها بأيديهم، وأطلقوا عليها مسمى «الحصون». وجميع هذه «الحصون»، التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، تغطيها النقوش التراثية من الداخل بألوان وتصاميم نابضة بالحياة.
هناك، التقينا بأحد رجال القرية، وهو إبراهيم فتحي، الذي تغطي رأسه أكاليل الزهور العطرة، بينما يتنقل صعودًا ونزولًا على السلالم الحجرية بسرعة ورشاقة كغزال عربي، لا يسابقه سوى قطه الأسود الأليف، الذي يراقب زوار القرية بمودة وبحذرٍ شديد.
ويوضح لنا إبراهيم، الذي يحفظ كل تفاصيل المكان، أن نسبة هطول الأمطار على القرية انخفضت قبل 40 عامًا، وبدأ رجال قبيلته في مغادرة (رجال ألمع)، حيث كانت الآبار جافة حينها، كما تركها شبابها للبحث عن لقمة العيش في مكان آخر. وهكذا، دفعت الهجرة الجماعية أهالي القرية إلى اتخاذ قرار بإنشاء متحف للمحافظة على إرث القرية وتراثها.
وفي عام 1985م، وارتكازًا على مبدأ أهل عسير بالاعتماد على أنفسهم دومًا، موَّل أهالي القرية مشروع افتتاح متحف يضم 2800 قطعة، داخل أعلى مبنى هناك مكون من ستة طوابق، وهو قصر آل علوان.
ومقابل رسوم دخول بسيطة جدًا لا تساوي شيئًا في قبالة الكنوز الأثرية الثمينة، تجد داخل المتحف تجربة غنية ترسم لك صورة واضحة عن طريقة عيش سكانها قديمًا، وتدفعك للتساؤل عن كل ما تقع عليه عيناك، لتتيقن حينها أن (رجال ألمع) هي حقًا إحدى أهم القرى التاريخية في المنطقة.
بائع العسل
كالتمور تمامًا، يحتل العسل مكانةً خاصة في وجدان الشعب السعودي، حيث اشتهرت منطقة عسير منذ مئات السنين بإنتاج أنقى وأجود أنواع العسل المحلي. ويبيع أحد رجال ألمع، وهو يحيى المغيدي، العسل يوميًا منذ 30 عامًا بلا كلل ولا ملل.
يقول يحيى: «اعتدت أن أمشي بنفسي إلى قمة الجبل، أما الآن فأنا أقود السيارة على الطريق، وأضع العسل داخلها لتحمله عني».
ويعدُّ جنوب غرب المملكة غنيًا بالتاريخ التجاري والزراعي، حيث يتمتع سكان المنطقة بعلاقة قوية مع طبيعتها الجغرافية، ويحفظون تفاصيل الجبال الشاهقة والسهول الساحلية على البحر الأحمر.
وبينما تمرُّ المملكة بمرحلة ازدهار وتحول وطني، تساعد أرامكو السعودية في إعداد تلك المنطقة من المملكة للفصل التالي من التاريخ السعودي، حيث تم إنشاء مجمع مصفاة جازان ليكون إحدى ركائز التنمية الاقتصادية للمنطقة والمملكة؛ ولتربط الشركة منطقة جازان بطرق التجارة من جميع أنحاء العالم، وتحافظ على إرثها العريق بوصفها محطة تبادل تجاري منذ قديم الزمان.