تستحق عناوين كتب عبدالفتاح كيليطو دراسة خاصة بها؛ فهي بلا استثناء تلتصق بالذاكرة. حتى لو تضببت موضوعات الكتاب، يبقى العنوان يضيء ويعيد ربطنا بالمتن مجددًا.
تلازمني عناوينه: العين والإبرة، لن تتكلم لغتي، أنبئوني بالرؤيا، لسان آدم، حصان نيتشة، من شرفة ابن رشد، أتكلم كل اللغات ولكن بالعربية، ثم: في جو من الندم الفكري.
وهذا الأخير بالذات يلازمني هذه الأيام، إذ أراجع كتابي «الأيك في المباهج والأحزان» بغرض إصدار طبعة جديدة منه مطلع العام المقبل. تلح عليَّ أجواء الندم ذاتها التي عاناها كيليطو، بينما يستعرض خياراته في الكتابة، تسرعه في حكم، وأخطاء السهو ونقص المعلومات. في ذلك الكتاب استشهد كيليطو بكُتَّاب سابقين عاشوا أجواء الندم ذاتها.
كل خيارات الكاتب عرضة للمساءلة، ولا شيء يضعه أمام مرآة الندم سوى قراءته لما كتب بعد نشره على القراء، وخصوصًا القراءة المتأنية بغية إصدار طبعة جديدة! لكن، هل هو الندم حقًا ما أعانيه الآن؟ هل هو الغضب؟ الخجل؟ الحيرة؟ أم كل ذلك معًا؟!
الندم إحساس مرتبط بذنب مضى ولا توجد فرصة لإصلاحه، لكن ها هو كتابي بين يديَّ وبوسعي تصويب فكرة تسرعت بها وتحسين سبك جملة أرهقت بها نفسي وشريكي القارئ، تحسين السبك والصوغ قد يأتي من الحذف، وقد يأتي من إضافة توضح فكرة ظلمتها بسبب الولع بالحذف.
لكنَّ القدرة على تحسين النص من وجهة نظر الشخص الذي صرته من شأنها أن تنقلني من جو الندم الفكري والفني إلى جو الحيرة. هل يكمن في هذه التعديلات عدوان على قارئ استقبل الكتاب على ما هو عليه وأرضاه؟ وماذا عن تعديل الفكرة؟
صدر «الأيك» للمرة الأولى منذ عشرين عامًا، وحمل بعض اندفاع الشاب الذي كنته ووثوقيته من أحكامه، وخلال العقدين تعلَّم العقل الحذر. فهل أترك جملة يمكن أن تنطوي على إساءة أو تعميم، كما قررت في الكتاب بثقة أن الأمريكيين يأكلون بشكل سيء؟!
بنيت هذا الاستخلاص على علامات الوجبات الأمريكية السريعة، لكنهم لا يعيشون على هذه الوجبات طوال الوقت. جملة صغيرة قادني التعميم فيها إلى إساءة للشعب الأمريكي في ذلك الوقت. لكن الإساءة نمت خلال العشرين عامًا وأصبحت مزدوجة: إساءة لتلك المجموعة الضخمة المنوعة من البشر، وإساءة إلى الكاتب الذي صرت إليه الآن.
ربما أستطيع أن أحل الخطأ القديم باعتذار عبر هذا المقال، وهذه إحدى حيل كيليطو التي أفشاها في كتابه القصير: أن يعتذر بمقال، يعالج خطأ التسرع في حكم، دون أن يعتذر تمامًا، مستعينًا بالمراوغة وتشعب الأفكار والحديث عن آليات التأويل وتعدد المعنى.
يحكي كيليطو عن مقابلة عقدها في كتابه «الغائب» بين مقامات الحريري و«ألف ليلة وليلة»، خالصًا إلى تشابه بينهما من جهة أن لا أحد ينام في النصين. وبعد ذلك اكتشف وجود النوم في «ألف ليلة وليلة» عبر ترجمة أنطوان غالان الذي ترجم الليالي إلى الفرنسية اعتمادًا على المخطوط الأقدم، وهذا المخطوط يأتي على ذكر النوم! ويكتب: «للتخفيف من وقع الصدمة التي عشتها حين انتبهت إلى خطئي لجأت إلى شيء من السفسطة، فحاولت بغير قليل من المكر أن أجد ثغرة في كلام غالان».
لكنني لن ألجأ إلى السفسطة، لعلاج ما أخطأت في طبعة الأيك الأولى، هكذا قررت، وسأفرض حذري الجديد على الطبعة الجديدة. فهل يضمن لي التعديل خروجًا آمنًا من جو الندم الفكري؟
الأمر ليس بهذه البساطة؛ فمطاردة الأخطاء تجعل ندمًا جديدًا يحل محل الندم القديم. سأقتل ذلك الشاب الأرعن الذي كتب الكتاب، وربما يوقع ذلك حزنًا في قلوب قراء أحبوا ذلك الكاتب بأخطائه.
عزت القمحاوي: كاتب وروائي مصري.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.