تُعبِّر الفنون عما يجول في خلد الإنسان وتصُوغ مشاعره وأحاسيسه. وقد اختلفت هذه الفنون وتنوعت على مر العصور، وقد عبرت هذه الفنون بمحاولات عديدة لتصنيفها، ولعل أشهر هذه التصنيفات تقسيمها إلى سبعة فنون هي: العمارة والنحت والرسم والموسيقى والشعر والرقص والسينما. وقد حاول البعض دمج هذه الفنون في عمل فني واحد، فأنتجت تلك المحاولات فنونًا كثيرة مثل فن الباليه والأوبرا، إلا أنها لم تكن متوازنة، ودائمًا ما نقصتها لمسة روحية تمنحها الكمال.
لكن عندما ظهرت السينما استطاعت أن تحتوي جميع الفنون في جعبتها مجسدةً إياها كعمل فني واحد متكامل ومتوازن. لذلك، تُعد السينما فنًا قائمًا بحد ذاته، ولغةً أخرى للتعبير عن الأفكار والمشاعر، تأخذك من عالمك إلى عوالم أخرى جديدة ومختلفة تشغل فيها جميع حواسك.
صانعة الأثر ومرآة الشعوب
ولعل مما يميز السينما أنها تتأثر وتؤثر في الثقافة التي تنطلق منها وتنتمي إليها في نوع من العلاقة الجدلية المستمرة. لأن الأفلام دائمًا ما تُحاكي ثقافة الشعب نفسه، وتحكي معاناته وتُلامس أوجاعه، وتُحفزه للتفكير والغضب وربما تدفعه لفعل الخير والشر.
وعلى سبيل المثال، عندما عُرض فِلم بامبي «Bambi» في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1942م، حيث يحكي قصة صغير غزال قُتلت أمه بطلق ناري من أحد الصيادين، لوحظ أن معدل صيد الغزلان قد انخفض إلى النصف بعد سنوات قليلة. بينما أثر فِلم «V For Vendetta 2005» بشكل سلبي في بعض المجتمعات، حيث ساعد على ظهور مجموعات الهاكرز وجماعات مجهولة مُعارضة تتبنى فكرة العنف للتغيير، وتحوَّل شعار V والقناع الموجود في الفِلم إلى رمز لغضب الشعوب وتمردها.
وكما أن الأفلام وسيلة للتعليم والتثقيف، فهي أيضًا وسيلة للوصول إلى الشعوب الأخرى، فالبلدان التي تشجع على صناعة السينما تزدهر فيها السياحة، ويحظى شعبها بالقبول لدى الشعوب الأخرى؛ لأن الأفلام تقدم للجمهور العادات والثقافة المميزة لتلك الشعوب التي تسحر المشاهد.
وللأفلام دور في معالجة القضايا بالغة الأهمية. ومثال ذلك فِلم الرسوم المتحركة قبر اليراعات «Hotaru no Haka 1988»، الذي يُعد من أقوى الأفلام لوصف الحروب، إذ يحكي عن طفلين يكافحان من أجل البقاء على قيد الحياة في قرية يابانية صغيرة في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ويُصور الفِلم التكلفة الحقيقية للحروب، فهو يقوم بطرح جريء ويحاول أن يخبرك كيف تبدو الحرب من خلال أعين بريئة عاجزة عن فهم هذا الكابوس. ويستند هذا الفِلم على رواية الكاتب الياباني اكايوكي نوساكا الذي عايش أحداثها بنفسه، وكتبها كاعتذار لشقيقته التي ماتت جرَّاء سوء التغذية.
قوة السينما وصناعة «البروباغندا»
وقد تُستغل الأفلام للترويج لممارسات وعادات خاطئة ليستسيغها الجمهور المستهدف، كالترويج للتدخين مثلًا أو تعاطي المخدرات، كما في فِلم «limitless 2011»، حيث يقوم البطل بتناول قرص غامض يعزز قدرات دماغه ويجعله أذكى وأقوى. وقد أظهرت دراسات أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية أن التدخين في الأفلام مسؤول عن جذب %37 من المدخنين المراهقين الجدد.
كما قد تدفع الأفلام المشاهد إلى التعاطف مع الجرائم المُرتكبة لأنها صُورت بشكل بطولي، وذلك من خلال وضع الحبكة التي تُلائم الموقف، وإظهار الزاوية التي يُراد للمشاهد أن يراها.
وقد تسلط الضوء على قضية مُهملة، مثل سَرد فِلم الألماس الدموي «2006 Blood Diamond» عن وحشية استخراج الألماس من المناجم الأفريقية، وحجم المعاناة التي يمر بها السكان المحليون في تلك المناطق، حيث يروي بدقة ما يحدث في دولة سيراليون التي تمزقها الحرب الأهلية، والظلم الذي يقوم به الثوار من مهاجمة القرى وقتل النساء والضعفاء، وأسر الرجال وإجبارهم على العمل في المناجم لاستخراج الألماس، وتجنيد الأطفال وتدريبهم على القتال. وبهذا يقدم الفِلم بكل براعة أسباب اعتبار تحويل الأطفال إلى جنود جريمة حرب.
وقد استجاب قطاع الألماس العالمي للفِلم، وأصبح هناك اهتمام بالشهادات التي تُفيد بأن الألماس الذي يُراد بيعه خالٍ من النزاعات، كما ازداد وعي الناس واهتمامهم بالتأكد من أن الألماس الذي يقومون بشرائه قد استُخرج بشكل قانوني.
ختامًا، أقول إن السينما وصناعتها تساعد على تشكيل وتطوير وعينا، وهي ليست مضيعةً للوقت كما يعتقد البعض، بل وسيلة فاعلة للنمو والمثاقفة الحضارية. وإذا كنت تفتقد عنصر الدهشة في حياتك، شاهد الأفلام.