إبّان حرب الخليج وحقبة السلاح الكيماوي والغازات القاتلة، يذكُر بعضنا ممن عاصر تلك الأيام العصيبة منظرَ الأقنعة وإحكام النوافذ في مشهدٍ سوداوي مُريع. كان منطقيًا أن يتسارع الأهالي نحو هذه السلوكيات الاحترازية، فصافرات الإنذار كانت تقتل صمت المدن، وكان أزيز الطائرات ينفض غبار الموجودات. إلا أنّ الأمور لم تستمر بحِكمة، فبعد تعوُّد الناس على هذه «المستثيرات»، تراخوا في «استجابتهم»، وأنزلوا أقنعتهم، كما فتحوا شبابيك النور والغازات لمنازلهم. تغيَّر السلوك رغم أن دواعي الخطر لم تتغير. بكل بساطة، تغيّرنا لأننا اعتدنا ولم نتغيّر لأننا سَلِمنا.
هذه اللامنطقية في السلوك ليست حدثًا جديدًا وليست أمرًا مفاجئًا، فلطالما كان الإنسان «غريب الأطوار» إلى حدٍ ما. يشعل السيجارة ويعرف أن السرطان شَبَحه القادم. يلهو بهاتفه خلف المُقوَد رغم معرفته التامة بالموت المُحدِق. يدخل في حمى استهلاكية ليس لأنه يحتاج لهذه السلعة أو تلك، ولكنه شاهَد الآخرين يشترونها ويتباهون بها. إذن، نحن نعرف أن تفكيرنا مخدوش بشتى أنواع الانحيازات. هذا الخلل الذهني لا يبقى حبيس الدماغ، بل يُترجِم نفسه إلى سلوكياتٍ مُعتلّة. وهنا مَكمن الخطر!
نلحظ الآن في جائحة كورونا مشهدًا موازيًا لما حدث في حرب الخليج. يرتفع التزام الناس بالإجراءات الاحترازية كلما صرّح القادة ومات حبيب، ولكن سرعان ما تضيع الكِمامة بعد أيام، وسرعان ما نتلاصق جسديًا أكثر مما ينبغي. قد يقول قائل إننا وصلنا إلى المناعة المجتمعية، وأن اللقاح وضعَ الفيروس في لَـحده. لكن هذا خلاف التوصيات العلمية. فما زالت نسبة كبيرة من الناس لم تتلقَّ الجرعات الكافية، وما زالت السلالات المتحوّرة تسافر عبر القارات. الأهم من ذلك كله، هو استيعابنا أن الأفراد الذين حصلوا على اللقاح يستطيعون نقل الفيروس إلى غيرهم، فاللقاح فقط يخفّف وطأة الأعراض الشديدة ولا يمنعنا من نقل الفيروس إلى الآخرين: اللقاح يمنع المرض، ولكنه لا يمنع العدوى. هذه النقطة مهمة، خاصة إذا كنّا نختلط بكبار السن، أو بالأفراد المصابين بأمراض مناعية أو حساسية تمنعهم من أخذ اللقاح. سلامتهم بأيدينا!
نعم، تطوير اللقاح كان فتحًا علميًا كبيرًا ومنعطفًا مهمًا في مواجهتنا الضَروس لهذه الجائحة، ونعم، لقد أُصبنا بالإرهاق الشديد في تطبيق الاحترازات المزعجة بلا شك، ونعم، لابد أن نُطيل النَّــفس قليلًا حتى يتم تقديم اللقاح لمن يحتاجه وحتى نفهم سلوكيات الفيروس بشكلٍ أفضل.
الجميل أننا مررنا بفترات أشد وطأةً وأثقل عبئًا ولقد نجونا. مرّت علينا أعياد كانت كالجنائز في طقوسها، ولكن ليس هذا العيد! لم تعد الأمور طارئة، ولم تعد الجائحة غامضة، فلقد فهمنا الكثير والكثير. حقٌ لنا أن نحتفل بعيد الأضحى المبارك ونحن نزهو بمشاعر الشكر والحمد والامتنان، وحقٌ علينا كذلك أن نستمر في حماية أحبابنا، وذلك عبر مواجهة الانحيازات الإدراكية: فالخطر ما زال قائمًا، مهما خفتت صافرات الإنذار ومهما افتقدنا إطلالة «العبدالعالي» في مؤتمراته الصحفية!
د. محمد الحاجي، كاتب سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.