اختار اللغة

فِلم "جزيرة العرب"..

قصة الماضي الذي أصبح حاضرًا مزدهرًا

two photographers waiting for the shot

بقلم

لا شكَّ أن كثيرًا من النعم الوفيرة التي ننعم بها اليوم لم تكن لتخطر لآبائنا وأجدادنا على بال، فأيامهم السالفة كثيرًا ما كانت محفوفة بضيق العيش والشدة. ولا شكَّ أن بلادنا الحبيبة عاشت في غضون فترة ليست بالطويلة طفرة شاملة غيَّرت وجه الحياة على هذه الأرض؛ لكن بدايات تلك الحكاية قد تغيب عن أذهان كثيرين لا سيما إن لم تُوثَّق تفاصيلها بالوثائق على اختلاف أنواعها.

ومن هنا تبرز أهمية فِلم "جزيرة العرب"، أو "الجزيرة المقدسة"، الذي أنتجته أرامكو السعودية في خمسينيات القرن الميلادي الماضي، ليكون أول فِلم سينمائي طويل حول المملكة، حيث يحكي جانبًا من قصة نهضة هذه الأرض على لسان الجيولوجيين الأوائل، بينما هم ينطلقون في رحلتهم الهادفة إلى التنقيب عن النفط واكتشافه.

الفِلم كان من إخراج الأمريكي، ريتشارد لايفورد، وبطولة جيم ستيوارت، الذي مثَّل دور رئيس الجيولجيين، ماكس، والإعلامي العربي عيسى صباغ، الذي قام بدور خالد، دليل الصحراء. وقد اعتمد الفِلم في تمثيله على موظفي أرامكو السعودية بشكل رئيس، وصُوِّرت مشاهده على مدار عامين بين عدة مدن في المملكة، من بينها الظهران والجبيل والدمام والأحساء، بالإضافة إلى 13 دولة أخرى.

وفي شهر يونيو من عام 1955م، أبصر الفِلم عرضه الافتتاحي في القاهرة، ثَّم وجد طريقه بعد ذلك إلى دور السينما فيها وفي الإسكندرية، وعُرض أيضًا على نطاق محدود في دور السينما الغربية. كما عُرض الفِلم من خلال دور السينما التابعة للشركة، ولاحقًا عبر محطة تلفزيون أرامكو في الليلة الأولى من افتتاحها في شهر سبتمبر من عام 1957م.


King Abdulaziz and his men
أحد مشاهد الفِلم التي تصوِّر الملك عبدالعزيز، رحمه الله، ورفاقه على أسوار الرياض، ضمن رحلة استعادته لعاصمة أبيه. وقد كان مسرح التصوير هو أحد القصور الأثرية في مدينة الأحساء خلال عام 1953م.

البحث عن كنز الصحراء

تبدأ أحداث الفِلم، الذي يستغرق قرابة 70 دقيقة، عندما يُشير فتًى في مقتبل العمر من على ظهر ناقته إلى الجبيل، التي تستقبل آنذاك بعثة الجيولوجيين الأمريكيين، لينطلقوا في رحلة البحث عن الذهب الأسود، بمساعدة دليل الصحراء، خالد، ورفيقه الفتى اليافع، حمد.

ومن خلال تسلسل الأحداث، يُشير الفِلم إلى تاريخ الحضارات القديمة المتعاقبة في المنطقة، ودور أهل الجزيرة في الربط بينها عبر القوافل التجارية، وصولًا إلى بزوغ فجر الحضارة الإسلامية فازدهارها ثمَّ تدهورها. ويسرد الفِلم بعد ذلك تفاصيل قصة الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، ورحلته في العودة إلى الرياض لاستعادتها وتوحيد المملكة، وأخيرًا قصة اكتشاف النفط وما أعقب ذلك الحدث التاريخي من نهضة شاملة.

ومع أن كثيرًا من التفاصيل جديرةٌ بالوقوف عندها، إلا أن دور حمد في الفِلم يستحق شيئًا من التأمل الخاص، فالفتى اليافع آنذاك كان يمثِّل المستقبل، الذي أصبح اليوم حاضرًا متجسِّدًا؛ فهو من جيل الرواد الأوائل، الذي قطع شوطه من السباق ليسلِّم الشعلة إلى جيل جديد مُفعم بالأمل، يتطلَّع إلى تحقيق إنجازات جديدة ترتكز على الماضي العريق الذي أورثه إياه من قبله.

Hamad and max
صُوِّرت مشاهد فِلم "جزيرة العرب" على مدار عامين بين 1953م و1955م، وشارك فيه تمثيلها موظفو أرامكو السعودية بشكل رئيس. وتُظهر الصورة مشهدًا من مشاهد الفِلم، حين يلتقي الفتى حمد برئيس بعثة الجيولوجيين، ماكس، أثناء وصول البعثة إلى الجبيل.

فرصةٌ ذهبية

الفتى حمد، هو ناصر بن مبارك المرشد الحوطي، الذي جاوز عمره اليوم سبعة عقود، وهو لا يزال يحتفظ في ذاكرته بشيئ من تفاصيل تلك التجربة الفريدة.

بدأت القصة عندما التحق الحوطي بأرامكو السعودية في سن مبكرة ليعمل في وظيفة مراسل، قبل أن ينتقل للعمل لاحقًا في إدارة الطيران. يقول الحوطي: "كان الالتحاق بالشركة يمثِّل حلمًا لكل شاب بسبب العائد المالي والمميزات الأخرى التي تقدِّمها، واهتمامها المستمر بالشباب وتطويرها لهم".

ويصف الحوطي مشاعر الانتماء، التي تتملَّك الجيل الأول من العاملين في الشركة، معربًا عن فخره بأن يكون جزءًا منها، فهي لم تُثرِ موظفيها فحسب، بل أثرت المنطقة بأكملها من خلال مبادراتها في مجال المواطنة، واستقطابها للكفاءات من مختلف الجنسيات للعمل فيها.

Nasser bin mubark
بين أحلام الصبا وفتوة الشباب وسنيِّ الحكمة والوقار، أمضى ناصر بن مبارك المرشد الحوطي حياة حافلة ومسيرة مهنية طويلة، تخلَّلتها تجربة التمثيل الفريدة ضمن الفِلم، وأسفارٌ عديدة كان يقوم فيها باستيراد المؤن أثناء عمله في إدارة الطيران في أرامكو السعودية.
Nasser Al-Hoty in Office
بين أحلام الصبا وفتوة الشباب وسنيِّ الحكمة والوقار، أمضى ناصر بن مبارك المرشد الحوطي حياة حافلة ومسيرة مهنية طويلة، تخلَّلتها تجربة التمثيل الفريدة ضمن الفِلم، وأسفارٌ عديدة كان يقوم فيها باستيراد المؤن أثناء عمله في إدارة الطيران في أرامكو السعودية.

ذكرياتٌ من التجربة الفريدة

وبالعودة إلى قصة مشاركته في الفِلم، يبيِّن الحوطي أن طبيعته المنطلقة والواثقة رغم صغر سنه لفتت أنظار فريق العمل إليه، وشجَّعتهم على اختياره. يقول: "أُعجب بي موظف أمريكي الجنسية يتحدث العربية بطلاقة، حيث كنت جريئًا ونشيطًا ولي صوتي جهور، فاستدعاني وتحدث معي عن الفِلم. وأتذكر أنه أحضر جهازًا لتسجيل صوتي وأسمعني إياه، فكان الأمر مثيرًا بالنسبة لي، حيث لم يسبق لي أن رأيت مثل ذلك من قبل".

ويذكر الحوطي أنه كان سعيدًا بخوض تلك التجربة الجديدة، كما كان مُفعمًا بالحماس والطاقة، وهو ما جعله يجتاز مراحل تصوير المشاهد تباعًا حتى النهاية دون أن يعبأ بأي صعوبات. يقول: "كنت في غاية السعادة عندما شاهدت الفِلم للمرة الأولى؛ ولا أزال أشعر بالفخر والاعتزاز في كل مرة أشاهده فيها، خاصة عندما يشاركني في ذلك أولادي وأحفادي".

ويوضح الحوطي أن الفِلم كانت له أصداء كبيرة في ذلك الحين، لكن الحال التي كان عليها مجال التمثيل وإنتاج الأفلام آنذاك لم تصنع له حافزًا على الاستمرار فيه، فبقيت تلك التجربة يتيمة بالنسبة إليه!