باللغة يستطيع أن يُقيم الشاعر نصَّه، وأيُّ جهل أو عدم اكتراث بروح اللغة، وحساسيتها المفرطة قد يتسبب في انهيار النَّص كاملًا. ولا أعني باللغة اللغةَ الجاهزة على الطريقة المعجمية ذات المعاني المحددة، إنما أَعني بها لغةَ الشعر، تلك التي لا وسيلة لها إلا الجمال والإبهار والفتنة والسحر، فاللغة في الشعر غاية في ذاتها، فلا بدَّ من هذا الوعي؛ كي ينتشل الشاعر نصَّه من الرداءة، والنظم البارد.
تنطوي اللغة في بلاغتها على ما يؤهلها أن تكون شاعرية بامتياز، وقابلة للتجدُّد والابتكار من خلال ظاهرة المجاز، والظواهر الأخرى كالانزياح، وما تطرحه البلاغة الحديثة من مناهج في استعادة اللغة إلى بكارتها.
يمكن أن نسجل ملاحظة نقدية على كثير من القصائد التي تُقرأ على أَنَّها شعر، ظنًّا بأن الشعر يتحقَّق من خلال الضوابط الظاهرية كالوزن والقافية مثلًا، والقليل الأقل من القصائد التي تشرق فيها اللغة، فتنقلك من الظلام إلى النور، ومن النوم إلى الركض على الماء في اللَّحاق بأصداء الموجة.
لا أدري ما الذي يكبح جماح اللغة في كثير من القصائد، فتبدو خافتة مهادنة لما هو في ذاكرة المعاجم دون أن تحدث فتنة أو بدعة، هل يعود ذلك إلى مدى وعي الشاعر بلغته وبالتالي مدى وعيه بمفهوم الشعر؟ هل هو بسبب التأثير الجمعي، فيكون الشاعر مستجيبًا لما هو مستقر في أذهان الجماعة من لغة بسيطة تقوم على إيصال المعنى القريب منهم؟ هل هو خوف الشاعر من الناس بأن يُرمى بالغموض والشعوذة اللغوية؟
ومع كلِّ هذه الأسئلة نجد في تراثنا وحتى في عصرنا قصائد تحدَّت هذه العقبة الكؤود ورفعت صوتها، فكانت اللغةُ فيها مشرقةً وَلُودًا إلى حدٍّ كبير.
هل على الشاعر أن ينزع عن اللغة الثياب السابقة أو يكسوها ثيابًا جديدة؟ والحقيقة أنَّ الشاعر يصنع الاثنين معًا.
اللغة عبر العصور تمَّ استهلاك أساليبها، وبليت مفرداتها من كثرة الاستعمال أو بشكل أدق بسبب حبسها في دلالات معجمية، وقوالب جاهزة، وهذا ما أسمِّيه بحرق اللغة، حيث لا يبقى منها إلا ما هو للإنشاء ووظيفة إيصال المعنى، وهذا يلائم لغة النثر التي تقوم على الشرح والتوضيح.
ومع هذا الاستعمال يأتي الشعر، فيحدث برقًا لغويًّا يجدِّد ما بلي من المفردات والأساليب والتراكيب، فالكلمة حين تعبر لغة الشعر، فإنها تصاب بنوبةٍ طارئة بسبب تبدّل العلاقات السابقة بعلاقات لم تعهدها، فهي تأخذ أَبعادًا أُخرى ليس منها الأبعاد المعجمية بالضرورة، بل، وعلى العكس تمامًا، فإنها تتجاوز المعجم وتتمرَّد عليه من خلال دخولها في سياقات وأساليب تطور من معناها، وتكسبها معانٍ جديدة.
من هنا نستطيع القول بأنَّ للغة معجمين: معجمًا وظيفيًّا ومهمَّته إيصال المعنى، ومعجمًا شعريًّا وغايته خلق المعنى.
حسن الربيح، كاتب وشاعر سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.