يقول المثل الإنجليزي طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. وأكتب هذه المقالة وأنا أتوقع وصولي اليوم إلى مليون خطوة (٥٠٠ ميل) منذ أن بدأ تطبيق هاتفي الجوال يعد خطواتي منذ نحو ٥ شهور في إطار برنامج بدأته مؤخرًا لإعادة هيكلة حياتي لجعلها أكثر كفاءة وفاعلية، بعد أن اقتربت من منتصف العقد الخامس.
وعندما يفكر الإنسان بتحسين نفسه تأتي فكرة روح التنافس التي تعزز الأداء، ولكن عندما تدخل مع منافسين يفوقونك بكثير فربما يكون لذلك أثر عكسي عليك. ولكن الدخول في تنافس وسباق مع النفس فكرة جديرة بالتبني لأنها تدفع الإنسان لأن يتفوق على ذاته باستمرار، وهذا يجعله في أفضل حالاته. والإنسان بطبيعته يميل إلى الراحة، وهناك من يركن إلى الكسل.
ولكن طلب الكفاءة والقوة وحفظ النفس يتطلب بذل الجهد والتعب ومقاومة النزوع للراحة، وكما في بيت الشعر المنسوب للإمام علي كرم الله وجهه:
صُنِ النَفسَ وَاحمِلها على ما يزيِنُها تَعِش سالِمًا وَالقَولُ فيكَ جَميلُ
والحياة المتزنة فيها مساحة للراحة وفيها مساحة للتعب والجهد والتطور والنمو. وبالنسبة لي بدأت في ذهني فكرة التسابق مع الذات وتحقيق رقمك القياسي الخاص بك (Personal Best) قبل نحو ١٥ عامًا، حينما كانت ابنتاي ديمة ودانة تشاركان، وهما دون سن العاشرة، في سباقات رياضة السباحة في الحي السكني بالظهران، وكان المشرفون على السباق يحسبون لكل متسابق أفضل الأوقات التي سجلها؛ فكل متسابق من جهة يتسابق مع نفسه وسجله السابق، ومن جهة أخرى يتسابق مع غيره. ومع وجود تلك الفكرة في الذهن إلا أنها لم تتحول عندي إلى التزام يغير السلوك.
ولكن خلال السنة الأخيرة وضمن أحد برامج التطوير الإداري في أرامكو السعودية، انضممتُ إلى أحد البرامج التي يقدمها أحد المدربين التنفيذيين (executive coaching)، الذي سألني عن الهدف الذي أرجو تحقيقه ليتم تطوير برنامجي التدريبي وفقًا لذلك، وكانت قد تبلورت في ذهني فكرة (Personal Best) وتحولتْ لتكون فكرة أكثر شمولية، وهي أن تكون «أفضل نسخة من نفسك»، أو «الإصدار الجديد من نفسك»؛ أي أن تعمل لتطوير و«تحديث» نفسك أسوة بأجهزة الجوال والبرمجيات والروبوتات بحيث تكون مواكبًا للتغيير وتتمتع بالتنافسية. وقد بدأت برنامجًا لتحدي الذات في خمسة مجالات أراها جوهرية لكل فرد أن يعزز قدراته ويحسن من أدائه فيها مقارنة بخط أساسه، وهي:
- الجانب الذهني، وهو يتطور ويتحسن بقراءة الكتب والتعلم وتحديث مهارات العمل والحياة.
- الجانب الجسدي، وهو يتحسن بممارسة الرياضة والغذاء والعادات الصحية.
- الجانب الروحي، وهو يقوى بالعبادة والتأمل والقرب من الله والعمل للآخرة.
- الجانب العاطفي، ويتعزز بمشاعر المحبة والعلاقة الإيجابية والتواصل مع الأسرة والأصدقاء وزملاء المهنة.
- الجانب المالي، ويتحسن بالادخار والاستثمار وتنمية الثروة.
ولا يخفى أن تحسين الذات والوصول بها الى أفضل نسخة منها، أخذًا في الاعتبار أنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، يتطلب جدية وإرادة قوية وجهادًا للنفس، وعلو همة وحافزًا يدفعك للنهوض وأداء أشياء ربما تستصعب القيام بها ولكنها ممكنة. فكما قال توماس أديسون: العبقرية ١٪ موهبة وإلهام و ٩٩٪ جهد وتعب. كما أنه يتطلب وقتًا فهو لا يحدث بين يوم وليلة وإنما يحدث بشكل تدريجي وعلى مدى شهور وسنوات. وإن القليل الدائم من الجهد خير من الكثير المتقطع. وهناك واجب أخلاقي على كل إنسان قادر أن يرتقي بنفسه إلى قمتها، فهو صاحب القمة، وألا يترك نفسه في القاع أو في منتصف المرتقى. وكما قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقصِ القادرين على التمامِ
وهنا أود التركيز على نقطة مهمة جدًا: نجاحك في تحسين ذاتك والوصول بها إلى النسخة الأفضل منها لا يعني أن تكون استثنائيًا أو خارقًا أو أن يكون لك أثر غير عادي في العالم، وإنما يعني أخذ الحياة بجدية، وإدراك أن الحياة ليست فقط للراحة وإنما جزء منها راحة وجزء منها تعب، وأن ذلك من متطلبات النمو؛ فلا نمو يأتي دون بذل الجهد، فالمولى عز وجل جعل ذلك من سننه الكونية.
وإذا كانت أدبيات الإدارة وتطوير الذات تنامت في الثلاثين عامًا الأخيرة بدعوى أن كل شخص ينبغي أن يكون استثنائيًا، فإن الإنسان عندما يبذل الأسباب ويجد ويجتهد ولا يدع النزعة للراحة تسيطر عليه سيكون دون شك في مستوى متميز، قد لا يكون استثنائيًا ويترك أثرًا خالدًا، ولكنه حتمًا سيكون شخصًا متوازنًا، مؤثرًا على الأقل في محيطه الصغير، وهذا بحد ذاته فضيلة ينبغي عدم تفويتها.
*فؤاد الذرمان: مدير عام مكتب رئيس الشركة وكبير إدارييها التنفيذيين.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.