في شتاء 2014م، كنا في رحلة عمل في شمال المملكة، أنا وزملائي الكاتب كريستوفر بالدوف، من قسم النشر، ومحمد الفقيه وسعيد الزهراني، من دائرة التنقيب. وفي أحد صباحات رحلتنا التي امتدت لأربعة أيام، انطلقنا شرقًا من مدينة طريف باتجاه مدينة عرعر حين لمحنا خط الأنابيب المعروف باسم التابلاين، يمتد بجوار الطريق السريع.
في تلك اللحظة، كان الطقس باردًا جدًا كما هي أجواء الشمال في منتصف شهر يناير، وكانت الشمس لا تزال تتثاقل في الشروق. كانت هناك رغبة جماعية بالتوقف أمام هذا المعلم، ولكن برودة الجو وامتداد خط الأنابيب بالجهة اليمنى محاذيًا الطريق أغرانا بمواصلة القيادة لمسافة أخرى قبل التوقف.
حين ارتفعت الشمس قليلًا وبدأ الدفء يدب في الأجواء، قررنا أخذ استراحة قصيرة والوقوف على واحد من أهم الإنجازات الهندسية في تاريخ صناعة النفط: خط الأنابيب الذي بُني قبل سبعة عقود بطول 1648 كيلومترًا لنقل النفط الخام من حقول النفط في شرق المملكة إلى ميناء مدينة صيدا اللبنانية على البحر الأبيض المتوسط.
انعطفنا يمينًا مبتعدين عن الطريق السريع لنوقف مركبتنا بجوار التابلاين. ثمة صمت يخيّم على المكان إلا من أصوات محركات الشاحنات وسيارات قليلة مسافرة على الطريق السريع الذي يمتد بمحاذاة التابلاين حتى يختفيان معًا وراء الأفق. قبل توقف ضخ النفط في خط الأنابيب في 1990م كان صوت تدفق النفط وأصوات أعمال الصيانة ومحركات مركبات وطائرات المراقبة تعمُّ المكان، ولكنه الآن في لحظة صمت تليق به كنصب تذكاري وإرث صناعي.
في استراحتنا القصيرة، تفرقنا من حول خط الأنابيب نتأمل تفاصيل بنائه المتقنة بشكل مدهش، حيث حلقات فولاذية تلف جسد الأنبوب لتثبيته بالأرض بقواعد خرسانية تبعد الواحدة عن الأخرى 20 مترًا. وخلال وقوفنا، كانت صُور زملائنا البالغ عددهم 16 ألفًا ممن صمموا وبنوا وعملوا على هذا المشروع منذ أكثر من 70 عامًا تلوح في المخيلة. ولكن الوقوف على التابلاين كان تجربة مختلفة، خاصة بالنسبة لنا نحن أبناء الجيل الحالي من موظفي أرامكو السعودية، ونحن نرى صرحًا هندسيًا بناه الجيل الأول من موظفي الشركة.
التقطت عدة صورة لخط الأنابيب من عدة زوايا وكانت إحداها من زاوية مرتفعة تظهر امتداد الأنبوب في الصحراء موازيًا للطريق السريع. لم يكن الغرض أن تكون صورةً تذكاريةً فقط وإنما لتوثق صمود ذلك البناء الهندسي وشهادة على متانة بنائه وفرادة فكرته وذكائها.
وبعد سبع سنوات من تاريخ التقاط تلك الصورة، وفي ديسمبر 2020م، اختارت وزارة الثقافة السعودية التابلاين ليكون أول موقع للتراث الصناعي في المملكة، لإدراجه ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو، وحينها تذكرت تلك الصورة، ثم لاحت لي فكرة أن يتم دمجها مع إحدى الصور الأرشيفية التي وثقت مراحل بناء وصيانة وتشغيل خط الأنابيب. وقع الاختيار على صورة أرشيفية بالأبيض والأسود لعمال سعوديين يقومون بأعمال صيانة للتابلاين لتشابه موقعها وزاويتها مع الصورة التي التقطت. ثم عرضتها على زميلي المصمم حسام نصر الذي شاركني حماس دمج الصورتين وعمل بإتقان على ذلك ليُخرج لنا تصميمًا فنيًا يحكي لمحة من زمنين من قصة التابلاين ويوثق جزءًا من تاريخه وحاضره ليتحقق في الصورة ما لا سبيل لتحقيقه في الواقع، ألا وهو اجتماع الماضي والحاضر على صعيد واحد.