عندما أدخل متجرًا لبيع المكسّرات، لا أدري ما الذي ينتابني عندما أبحث بعينيّ عن ضالة في مكان ما. ثمّة رائحة تجذبني إليها مثل جنيّات الحكايات والأساطير اليونانية. أراني بلا شعور مني، أقف أمام الفول السوداني وأتمعن في اللون وحجم الحبّة، ودرجة التحميص، ولا بأس من تذوق حبّات من هنا وهناك لأتفحص الطعم وأقرر ما الذي أريده بالضبط! يسألني ولدي: ما سرّ وقوفك هكذا؟ ولماذا السوداني بالذات؟
كنت وأخوتي إذا أوشكت الشمس على المغيب، نخرج إلى باب البيت ننظر يمينًا ويسارًا ونقول: هل من هنا يأتي أم من هنا يأتي؟ ننتظر بلهفة المشتاق، واستعداد العداء عودة أبينا. نرقب الشارع الطويل وننتظر تلك اللحظة التي يطلّ علينا حتى نتسابق إليه من يلمسه أولًا، ومن سيعتلي كتفه المتعب أولًا. لم نكن نحسّ بتعبه وقتها، وأن هذا المتن الذي يحملنا عليه قد أنهكته الشمس، و«الأشغال الشاقة المؤبدة» هو أبي الذي لا يهدّه التعب، هو عنترة بن شدّاد، ومحمد علي كلاي، وكلّ الأبطال مجتمعين.
كان أبي يعمل بناءً، ولا سقف يحميه سوى عناية السماء: تحت الشمس الحارقة صيفًا، وتحت رحمة الصفر المئوي شتاءً، ثمّ يعود وقد تبدّل لون قميصه من التعب. ورغم هذا كلَه، لا ينسى أبي أن يملأ جيوبه بما نشتهي، فقد كان يجد الوقت والطاقة بعد عمل يوم مضنٍ تحت الشمس أن يعرّج على الدكان ليشتري لنا الفول السوداني المحمّص. هذا الطعم الممزوج بالحب هو الذي يجعلني أقف مستذكرًا كل التفاصيل! لم يكن أبي ليتوقف عند السؤال: هل هذه اللهفة لأجله أم لأجل ما يضعه داخل جيوبه، فلا ينتظر أن يدخل البيت ويجلس ويغرف لنا ممّا يخفيه، بل كان يعطينا ونحن نعتلي ظهره جميعنا.
كيف كان رحمه الله يستلقي متعبًا، ولم نشبع من وجوده معنا فنظل حوله نهزّه ونناديه لا نريده أن ينام، وتهمس أمنا قائلةً: أبوكم متعب اتركوه يرتاح! وكان بين غافٍ وصاحٍ يقول: «اتركيهم يا أم محمود هؤلاء ذخيرتي لأيام شيبتي».
جيل من الآباء لم يعرف من الحياة سوى الشقاء والتعب لننعم بكلّ شيء، هذا الجيل الذي رصف لنا الطرق، وبنى البيوت بيديه، ورفع البنيان وشيّد البروج التي نراها حيثما وجّهنا أبصارنا. ذات يوم، وفي آخر أيامه، وقفت مع أبي رحمه الله على سطح المنزل ونظر بعينيه ملء الأفق كأنه يودّع المكان الذي عاش به عمره كاملًا، وقال: «أترى هذه المدينة؟ أنا بنيتها مرتين، مرة بالحجر والطين، ومرة أخرى كما تراها».
ويسألني ولدي: لماذا أقف متسمرًا أمام الفول السوداني مأخوذًا بالذكريات!
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.