من أصعب وأقسى التجارب الحياتية التي يمر بها أي إنسان فقدُ عزيزٍ عليه، أو مقرب منه، أو أثير لديه. ويكون الأمر أشد صعوبة وأكثر قسوة حين يحدث ذلك وهو بعيد عنه، كأن يكونا في بلدين أو ربما قارتين مختلفتين تفصل ما بينهما آلاف الكيلومترات، ويزيد الطين بلة ألا يستطيع السفر ليودع ذلك الإنسان المقرب منه وداعًا أخيرًا قبل أن يوارى جسده الثرى.
نعرف جميعًا أعداد الوفيات المرتفعة التي نجمت عن وباء الكورونا وما تزال منذ عام ونصف على الأقل في كل مكان في العالم. وعلى المستوى القريب منا، شهدنا وسمعنا عن عدد كبير من حالات الفقد الموجع نتيجة التعرض لهذا الوباء، الذي ندعو الله أن يعجل بتخليص البشرية جمعاء منه.
ردة الفعل المباشرة والمتوقعة بطبيعة الأمر لأي حالة من حالات الرحيل هذه هو الحزن والبكاء وتجرع مرارة الفقد، وربما التعبير عن ذلك شعرًا –إن كان المرء شاعرًا – أو حتى نثرًا، إن كان كاتبًا، كما حدث مع الكاتبة النيجيرية المعروفة تشيماماندا نغوزي آديتشي، التي فقدت والدها وهو في الثمانية والثمانين من عمره في يونيو من عام 2020م، فكتبت مقالة حول ذلك نشرتها في بادئ الأمر في النيويورك تايمز، ومن بعد ذلك توسعت فيها وطبعتها في هيئة كتاب قصير بعنوان "ملاحظات حول الحزن"، صدر في مايو 2021م. ورغم أن السبب المعلن لوفاة والدها هو مضاعفات الفشل الكلوي الذي كان يعاني منه، إلا أنها كما عبرت في كتابها لم تستبعد أن يكون لموته علاقة بالوباء الذي اكتسح كل أركان العالم.
وبغض النظر عن السبب الكامن وراء موته، فإن ما جعل من أمر وفاته مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالوباء هو أنه حدث في أوج تفاقم الوباء حين أغلقت معظم دول العالم حدودها وتوقفت رحلات الطيران عالميًا بشكل غير مسبوق على الإطلاق في تسارع كابوسي للأحداث ليس له مثيل.
لقد رحل والدها دون أن تتمكن هي وأشقاؤها وشقيقاتها المتوزعون في أكثر من بلد في العالم من وداعه أو أن يكونوا قريبين منه لحظة رحيله، أو من والدتهم لمواساتها في رحيل زوجها وشريك حياتها.
يتكون الكتاب من 30 مقطعًا متفاوتة الطول، وإن غلب عليها القصر إجمالًا، وكأن في ذلك تعبيرًا عن الحزن الذي لا يمكن عقلنته والنظر إليه نظرة تحليلية ومنطقية "باردة"، والذي لا تستطيع الكاتبة التعامل معه إلا على دفعات ونوبات من الكتابة التي تحاول بها التعبير عنه والتحرر منه في الوقت نفسه.
تكتب أديتشي عن كونها واحدة من الملايين الذين فقدوا أعزاء عليهم وأحباب لهم في الفترة الماضية، وتتناول الأبعاد الشخصية المألوفة في هذه الحالة وكذلك الأبعاد الثقافية للحزن. تكتب عن الحزن والغضب والشعور بالعجز إزاء موت أقرب الناس إليها. كما أنها تمزج في كتابها بين تأملاتها حول الحزن جراء رحيل والدها وبين خيوط من سيرته وقصة حياته، بدءًا من نجاته من الحرب الأهلية النيجيرية، أو ما تعرف باسم حرب بيافرا، التي كتبت روايتها الأشهر عنها وهي رواية "نصف شمس صفراء"، وانتقالًا إلى عمله كأستاذ جامعي معروف في علم الإحصاء، وصولًا إلى أيام الجائحة التي كانت يتواصل فيها مع أولاده وأحفاده عبر مكالمات الفيديو.
تعري أديتشي لحظات الضعف الإنساني والإنكسار والشعور بالضياع الذي يعتمل في نفسها فنكاد نسمع صوت عويلها على الصفحات ونوشك أن نرى أثرًا من دموعها على أصابعنا ونحن نقلب صفحات كتابها من فرط صدقها في التعبير عن الحزن في أقسى تجلياته وأصعب أوقاته ليظل هذا الكتاب شاهدًا آخر على أن في الكتابة بحد ذاتها مهربًا وملجئًا، وربما علاجًا لما نحن في عرضة دائمة له من الخسران والتفجع والفقد.