عززت الجائحة على مدى الخمسة عشر شهرًا الماضية تمسك كثير من الأطفال والمراهقين حول العالم بأجهزتهم وألعابهم الإلكترونية، وأبقتهم إلى جانبها في غرفهم، رافضين الخروج منها وتركها والانخراط في الحياة الميدانية الطبيعية كمن هم في سنهم ونشاطهم. وأطَّرت الدراسة عن بُعد على مدى عام كامل تلك العلاقة بين الطفل والجهاز الإلكتروني على هذا الحال، وعلى هذا النمط المعيشي اليومي الجديد والغريب والمهدد لأمنه ولصحته ولسلامته النفسية ولنمو مهاراته الاجتماعية.
المخاوف والأسئلة حول مآلات ذلك كثيرة في هذا الشأن، ولا يزال يتولد مزيد منها في كل حين. فالتجربة جديدة، والجائحة باغتت العالم كله، والفضاء الرقمي أخرج الألعاب التقليدية من سوق المنافسة على هوايات الطفل ورغباته البريئة النشطة في اللهو والقفز هنا وهناك. ولم يمر الآباء والأمهات بمثل هذه التجربة من قبل، ولا يعلم معظم أولياء الأمور انعكسات ذلك على صحة أبنائهم، وعلى تشكيل شخصياتهم وقدراتهم ومداركهم ونضجهم العقلي وسلامة نفسياتهم من أي اضطراب، وقبل ذلك أو بعده مساسه بهويتهم الثقافية وقيمهم الدينية والاجتماعية.
ما يبعث على القلق بشكل أكبر هو أنه لا يوجد أفق واضح لزوال هذا النمط الجديد من الحياة بين الأطفال والمراهقين وحتى جيل الشباب من أبناء المدن والحواضر، سوى باجتثاثه ولو جزئيًا عبر مبدأ الإحلال والإبدال. وهو مبدأ صعب التطبيق، ولا يستطيعه كل أب وأم، فضلًا عن الظروف الأسرية التي تختلف من بيت لآخر، ومستوى وعي الأبوين بسبل مواجهة ذلك السلوك الجديد، الذي شبهه البعض "بمتلازمة الكوخ" مجازًا، وكذلك مستوى إدراكهما لضرورة التحرك سريعًا وتقويم سلوك أبنائهما، وعدم إهمالهم وتركهم أمام تلك الشاشات ليلًا ونهارًا بعيدًا عن مخالطة الأسرة وعن الخروج إلى ضوء النهار.
إن فهم الوالدين وإدراكهما التام لمدى خطورة استمرار هذا الوضع يشكل الخطوة الأولى على طريق الخروج من هذا النفق المظلم. كما أن حجر الزاوية الذي يرتكز عليه تغيير هذا الواقع لا بد أن يُبنى على مبدأ التدريج وإقناع الأبناء، فإدمان الألعاب الإلكترونية يحتاج علاجًا حكيمًا يدرك مدى تمسك الطفل والمراهق بها، وعدم استجابته لكل الدعوات لترك الأجهزة دون قناعة. ولا شك أن بناء القناعة يتم ضمن معايير وقواعد عدة، منها وضع الأمور في سياقها وعدم السماح بخروجها عن سياقاتها المعقولة من خلال زرع القيم العليا في أذهان الأطفال والمراهقين؛ فاللعبة جائزة ومكافأة، تأتي بالإنجاز وتزول بالإخفاق، ولا تعد حقًا مكتسبًا. والوقت له قيمة يجب أن تحترم، وكذلك العبادة وبر الوالدين وصلتهما وحضور مائدة الطعام، كلها قيم يجب أن تعظَّم وتأخذ مكانها فوق وقت الاستمتاع باللعب.
كما تُبنى القناعة بقاعدة الترغيب والترهيب، أو كما يُقال: "بقاعدة العصا والجزرة"، فالجزرة هي المكافأة على الإنجاز، والعصا هي الحرمان المؤقت من اللعبة المؤذية المراد تقويم استخدامها حال الإخفاق أو التقصير. وبذلك يتخلى الطفل عن الإسراف في قضاء الأوقات مع اللعبة الإلكترونية التي أدمن عليها بعد أن يدرك تلك القيم والمعايير التي تحكم استخدامه لها.
ولا شك أن إيجاد البدائل عن الألعاب الإلكترونية أو منصات التواصل الإلكترونية في يد الطفل أو المراهق يصعب ويسهل بناء على معطيات عدة. ودور الأبوين يجب أن يكون ديناميكيًا وخلاقًا في تتبع البدائل التي لا تصمد كثيرًا أمام هوس الألعاب الإلكترونية وجاذبية منصات الترفيه والتواصل الإلكتروني ومحاصرتها لمستخدميها عبر عدة أجهزة رقمية مختلفة من حولهم.
وختامًا، لا بد أن يدرك أولياء الأمور أن هذا الواقع الجديد هو قدر هذا الجيل وقدر آباء وأمهات اليوم على حد سواء؛ فالسابقون لم يواجهوا تحديات تربوية مع أبنائهم بمثل ذلك، ويبقى عزاء الأبوين في هذا الزمان أن الثواب على قدر المشقة.