إطلالة

بروفة أولى لنهاية التاريخ

بروفة أولى لنهاية التاريخ

النصوص والآثار والنبوءات القديمة المرتبطة بنهاية التاريخ، وفي مختلف الثقافات، تحيل دائمًا على مشهدية بصرية وواقعية مطابقة تمامًا لواقع الحياة زمن ولادة تلك النصوص، وكأن تلك المرويات تنطلق من فرضية ثبات المشهد الحياتي واستمراره على نسق واحد، بمعزل عن التراكم الحضاري ومنطق التطور.

وعلى الرغم من انضواء كثير من نصوص نهاية التاريخ ضمن دائرة الأساطير وموروث الحكايات الشعبية؛ إلا أن المرجعية الدينية، والموثوقية الروائية والتاريخية لقدر كبير من تلك المرويات، كالأحاديث والآثار النبوية الصحيحة؛ تسبغ عليها أهمية عالية، وجدية كبيرة في القبول والتلقي، مثلما أنها تفصح عن مفارقة تتعلق بمشاهد وتفاصيل تلك المرويات التي يفترض أن وقتها لم يحن بعد، وأن زمن تحققها هو المستقبل.

فإذا أخذنا في الاعتبار التنامي التقني والحضاري في واقعنا المعاصر، مع بدائية صورة الحياة في تلك المرويات التي تخبر مثلًا أن حروب نهاية التاريخ سيكون عتادها السيوف والرماح والخيل، رغم أن زمنها هو المستقبل التالي لزمن الذرة وحروب الصواريخ العابرة للقارات، والتقنيات المذهلة؛ نخلص من ذلك إلى نتيجتين: أولاهما التشكيك في تلك المرويات، وهو مالا يصح مع الصحيح الموثوق منها كما تقدم، ومثلما هو الحال في الأحاديث النبوية الثابتة، فيما يخص أشراط الساعة، وأخبار نهاية الزمن، وأحاديث الفتن والملاحم وما شاكلها، والثانية الإذعان إلى حقيقة مروعة مفادها أن الحياة سترتكس مجددًا إلى نقطة الصفر التي انطلقت منها، وستعود الدنيا إلى بدائيتها خالية من كل تقدم، وكأن خطرًا ما يؤذن بنهاية فادحة تترصد كل ما أحرزه البشر من تقدم تقني، ومنجز علمي وحضاري؛ لتنسفه كاملًا، وتوقف نمو الزمن وتقدمه والتتابع المنطقي لأحداثه.

والفرضية الثانية محتملة جدًا، ويعزز احتمالات تحققها جنون الإنسان، الذي أنجز مع أسباب الحياة والتحضر والرفاه عواملَ الدمار والفناء الشامل بمختلف أشكالها. وعلى الرغم مما قدمته الحروب الكبرى وويلاتها وأسلحتها من مقاربة منطقية لهذه الفكرة واحتمالات تحققها؛ إلا أن جائحة كورونا - بغض النظر عن أسباب نشوئها والجدل الدائر حولها -استطاعت على نحو بعيد تبسيط الفكرة وتقريبها ووضعها في متناول النظر والتدبر لكل أحد، كما لم تفعل جائحة أخرى من قبل، أو حتى حرب من حروب التاريخ المعاصر، وهي تشل مفاصل الحياة جميعها، وتضرب أسباب التقدم منذ عامين تقريبًا، وتفرض على البشرية أن تتباعد عن كثير من مناشطها وتفاصيل أيامها، حتى تلك التقنيات التي كانت تختزل الزمن وتناجز الريح باتت أساطيل معطلة وتقنيات كاسدة، بينما الجائحة تخلي مسرح الحياة على نحو رأينا معه الوحوش تجول آمنة في شوارع المدن الخاوية من حراكها ولهاث حضارتها، في مشهد بدائي يشبه بروفة أولى لنهاية التاريخ!.

محمد الراشدي، كاتب وناقد سعودي.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge