كانت ولا تزال لذكريات الشهر الفضيل بكل تفاصيلها نشوة ولذّة من نوع خاص، خصوصًا عند استذكار دهشة البدايات والطفولة وترويض الصغار وتدريبهم على الصيام؛ بداية من الصوم "نص نص" لغاية الظهر، إلى الجري عند سماع المدفع الذي يُعلن نهاية الصوم وقت الغروب.
كان الصيام في الصيف معاناة كبيرة لطفل لا يجلس في البيت، فهو ككلّ أطفال الدنيا معجون باللعب والحركة، ويشتهي الأشياء من كلّ الأصناف السائلة والصلبة. أتذكر أحد الأطفال حاملًا قارورة ماء بارد معه ليتمضمض بها كلما أحس بالعطش، وآخر يضع في جيبه الفول السوداني فيمضغه ثمّ يبصقه، ويقسم يمينًا مغلظًة أنه لم يبتلع منه شيئًا. أما أن يحضر أحد الأطفال معه عصير برتقال ليتمضمض به فكانت هذه صرعة جديدة.
بدأنا الصيام في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي، ويبدو أنّ خوف أمهاتنا علينا جعلهنّ يضعن في حقائبنا المدرسية الماء لاستخدامه عند الحاجة. وفي سويعات الظهيرة، حين تكون الشمس عامودية، ليس عليك سوى أن ترمي بجسدك أمام الوالدة لتقول لك: "حبيبي، واضح أنك متعب جدًّا فلا بأس لو أفطرت". فما يكون منك إلا أن تقف كالذي أصابته الكهرباء وتجري باتجاه ذلك "الزير" الذي يرشح بالماء الزلال وتغرف غرفة قبل أن يراك الوالد الذي كان أكثر صلابة في قرار الإفطار.
كنا نشعر، نحن حديثي الصيام، أنّ النهار لا ينتهي، وأن الوقت يمرّ بطيئًا مثل سلحفاة مريضة، والساعات كسلى، فإذا وصلنا إلى وقت العصر يدبّ الأمل في عروقنا، وننتشي بدنوّ وقت المغرب القادم لا محالة، خاصة مع ما نشهده من تجهيز مدفع الإفطار لساعة الصفر!
في أعلى مكان في المدينة، وقريبًا من السوق، كانت منصة إطلاق ذلك المدفع صاحب المهابة، الذي يشمخ مثل هزبر في منيع غابة. كان الفتية يراقبون مبتهلين إلى الله أن يعجّل في الدقائق المتبقية من النهار الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
كنّا نُذكّر بعضنا بعضًا لنشهد لحظة التجهيز والإطلاق، ففيها إثارة ودهشة وفرحة الصائم لأطفال يتعلمون مفردات الحياة عندما كان لكل شيء بريق لا يخبو. كنا نسبق وصول المدفع الذي كانت تحمله عربة عسكرية وينزله جنديان مفتولا العضلات وينصبانه على طرف الجبل.
بعد ذلك تبدأ مرحلة التجهيز، وهي دك البارود في أسطوانة المدفع القديم، ثم ملء فوّهته بخرق من القماش ودكها بإحكام أيضًا. كانت حركة بسيطة لكنها كانت تحتوي على الكثير من الإثارة، فليس الأمر مقتصرًا على دويّ المدفع فقط، بل الإعلان عن نهاية الصوم!
كان أحد الجنديين يشعل الفتيل ثم يأمرنا بالابتعاد، فنسمع دويًا كبيرًا لصوت المدفع الذي تتناثر منه الخرق المشتعلة في الهواء، فنهرع بعدها بكل ما أوتينا من قوة وما استطعناه من سرعة، لنصل قبل أن يصل صوت المدفع إلى أسرنا المتحلّقة حول سفرة الإفطار، فلا نريد أن يفوتنا شيئ!
إلى فترة قريبة، كانت أغلب المدن العربية تطلق مدفع الصوت هذا وقت السحور والإفطار كطقس من طقوس شهر رمضان، رغم كثرة المآذن والمساجد فيها. وكانت القاهرة أول مدينة إسلامية تستخدم هذه الوسيلة عند الغروب، ولكن البداية كانت جاءت محض صدفة؛ ففي أول يوم من أيام رمضان لعام 859هـ (1455م) كان والي مصر المملوكي "خوشقدم" قد تلقى مدفعًا هدية من صاحب مصنع ألماني، فأمر بتجربته وتصادف ذلك الوقت مع غروب الشمس، فظن سكان القاهرة أن ذلك إيذان لهم بالإفطار. وفي اليوم التالي توجه شيوخ الحارات إلى بيت الوالي لشكره على هديته لسكان القاهرة. فلما عرف الوالي الحكاية أعجب بذلك، وأمر بإطلاق المدفع عند غروب الشمس في كل يوم من أيام رمضان، واستمر هذا الأمر سنين طويلة حتى ألفه الناس.
لم يعد الناس ينتظرون إطلاق المدفع، ولم يعد الأطفال ينطلقون جريًا لبيوتهم من أعلى الجبل، لكنني شاهدت بعض الناس المتأخرين في الشوارع لحظة الأذان يقودون مركباتهم بسرعة فائقة، فتذكرت ذلك الطفل الذي كان يسابق الصوت للوصول إلى البيت قبل البدء بتناول لذائذ الطعام وأطايب الشراب!
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.