«حطَّ الأمير فيجايا الصنديد رحاله في سريلانكا»؛ هكذا تذكر (الماهافامسا)، القصيدة الملحمية لتاريخ سريلانكا، التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي.
الرواية الشعرية تمضي لتشير إلى أن فيجايا طُرد قبل 2600 سنة تقريبًا من البلاط الملكي السنهالي في الهند، ليخوض غمار الماء متجهًا إلى الجنوب عبر دلتا نهر الغانج برفقة 700 جندي. بعدها حطَّ الجميع رحالهم على الساحل الشمالي الغربي في جزيرة سريلانكا، حيث «جلسوا متعبين على الأرض، واحمرَّت أيديهم من لمس التراب».
لهذا أطلق فيجايا على المملكة التي أسسها اسم (ثامبا باني)، أي (الأيدي النحاسية). ويقول المؤرخ السريلانكي، دلهاني ديسانياكي، الذي يعمل في جامعة لاتروب الأسترالية، إن كلمة باني يمكن أن تشير أيضًا إلى الأوراق، خاصة الأوراق اليانعة للفصيلة النباتية (سيناموموم فييروم)، أو القرفة الحقيقية، التي تتوطَّن في ذلك الجزء من سريلانكا.
وفي كتابها (نكهة التوابل)، تصف مريم ريشي هذه النباتات، قائلة: «هو نبات بسيط دائم الخضرة، يصبح عند زراعته شجيرة، كما يمكن أن يُصنف كشجرة أيضًا. ولا تكمن القيمة الحقيقية للقرفة في أوراقها وإنما في لحائها الداخلي».
وإلى جانب توابل أخرى، من بينها القرفة الصينية (سيناموموم كاسيا)، وهي فصيلة أخرى من القرفة أكثر خشونة تنبت في جنوب الصين، نقل التجار القرفة الحقيقية إلى مصر عام 2000 قبل الميلاد، خلال رحلاتهم التجارية عبر الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية، لكنهم أبقوا أمر المصدر السريلانكي لهذه البضاعة النادرة سرًا بينهم.
قصةٌ أسطورية
وبناءً على ذلك، لا يُستغرب ما ذكره المؤرخ الإغريقي، هيرودوت، عام 430 قبل الميلاد تقريبًا في كتابه الذي يُدعى تاريخ هيرودوت، حيث قال إن القرفة تنمو في الأرض التي نشأ فيها إله الحصاد الإغريقي، ديونيسوس، أي أنها تقع في مكان ما نحو الشرق، وأن حصادها كان في شبه الجزيرة العربية.
ويذكر هيرودوت أن التجار العرب يقولون إن هذه الأعواد الجافة، التي تعلَّمنا من الفينيقيين أنها تُدعى القرفة، تحملها طيور كبيرة إلى أعشاشها، حيث تستخدم الطين في إلصاق أجزائها، وهي تستقر على منحدرات صخرية رفيعة لا يستطيع أي إنسان التسلق إليها.
ويستمر هيرودوت في سرد القصة، قائلًا إن التجار كانوا يضعون قطعًا كبيرة من لحوم الحيوانات النيئة في أماكن قريبة من أعشاش هذه الطيور، التي تُسمى بطيور (سينامولوغوس)، أو طيور القرفة. يقول: «كانت الطيور تهبط، وتجمع هذه اللحوم الملقاة في الأسفل، وتعود بها إلى أعشاشها. لكن الأعشاش لم تكن تحتمل أوزان هذه اللحوم، فتنهار وتسقط للأسفل، وبعد ذلك يقترب منها التجار العرب لجمع ما يريدونه».
فوائد عديدة
وبعد مرور 500 عام تقريبًا، لم يأخذ عالم التاريخ الطبيعي والفيلسوف الروماني، بليني الأكبر، تلك «القصة الأسطورية» على محمل الجد، فالتجار اختلقوا ذلك على الأرجح حتى تظل الأسعار مرتفعة، ومصدر البضائع خفيًا. وقد كان بليني مصيبًا في ذلك، فالعالم كان يقدِّر القرفة لندرتها وللغموض المرتبط بها. وعلى الرغم من ذلك، بالكاد استطاع أي شخص في منطقة البحر الأبيض المتوسط أو أوروبا أن يعرف مصدر القرفة لمدة ألف عام أخرى تقريبًا.
ومع أن القرفة تلازم جميع الرفوف المخصصة للتوابل في يومنا الحاضر، حيث تُستخدم في الغالب لإضفاء النكهة على الأطعمة والمشروبات، إلا أن تاريخها يُظهر أن لها مجموعة استخدامات أخرى، كان أغلبها يرتبط بالصحة، كما يذكر ذلك جاك تيرنر في كتاب له بعنوان (التوابل.. تاريخ الإغراء).
وإلى جانب المصريين، الذين استخدموها كعطر في التحنيط، أشار العهد القديم إلى القرفة بوصفها من مكونات زيت التقديس، كما استخدمها الناس من الهند إلى روما ضمن طقوس حرق الموتى، فيما ذكرها الكتاب الضخم، (الحاوي في الطب)، الذي ألفه محمد بن زكريا الرازي في القرن الميلادي العاشر، موصيًا بها لأنها تُسهم في منع التعرق وتجنب الرائحة الكريهة.
وفي العصور الوسطى، كان الأطباء المسلمون يستخدمون القرفة في علاج الجروح والأورام والتقرحات، وكان لهم بذلك تأثير على الأطباء الأوروبيين لاحقًا، مثل الطبيب الإيطالي ماثيوس بلاتياريوس، الذي أوصى في كتاب له بعنوان (الأدوية البسيطة) باستخدام القرفة للمساعدة في شفاء الجروح، وعلاج أمراض المعدة والكبد والقلب وغيرها من الأعضاء.
ويُشير المؤرخ السريلانكي ديسانياكي إلى أن الكتب الطبية، التي ألفها الملك بوذاداسا في القرن الميلادي الرابع في سريلانكا، قدَّمت شجرة القرفة على أنها شجرة أو عُشبة طبية، وأن الطب الأيورفيدي، الذي تعود جذوره إلى منطقة الهند، لا يزال حتى اليوم يصف القرفة للمساعدة في الهضم وصحة الفم.
نزاعٌ على البضاعة النادرة
ملامح الارتباط بين سريلانكا والقرفة لم تظهر إلا في القرن الميلادي العاشر؛ ففي كتابه (عجائب الهند)، يقول الرحالة الرام هُرمزي: «ومن الجزاير الموصوفة التي ليس مثلها في البحر جزيرة سَرَنْديب، وتُسمى سهيلان ... وقشور أشجارها القرفة المرتفعة، وهي القرفة السهيلانية الموصوفة».
أما ابن بطوطة، الرحالة العالمي الأشهر في عصره، فوصل إلى الجزيرة عام 1344م، ودخل مدينة بَطَّالة، حيث وصفها بوصف ربما بدا مبالغًا فيه، قائلًا: «جميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة. تأتي بها السيول فتجتمع بالساحل، كأنها الروابي».
أمَّا هيرونيمو دي سانتو ستيفانو، الذي سافر في أواخر القرن الميلادي الخامس عشر من جنوى الإيطالية، فأشار إلى أنه «بعد الإبحار لمدة 26 يومًا، وصلنا إلى جزيرة كبيرة تُدعى سيلان، تُزرع فيها أشجار القرفة».
وعلى الرغم من ذلك، فإن أصول القرفة لم تُعرف على نطاق واسع قبل عام 1505م، وهو العام الذي هبَّت فيه عاصفة جرفت أسطولًا برتغاليًا إلى شواطئ سريلانكا. ومن هناك، غادر البرتغاليون حاملين معهم 26 طنًا متريًا تقريبًا من القُرفة، التي سُرعان ما أثارت شهيتهم لمزيد منها. وعلى مدى قرن من الزمان منذ ذلك الحين، ومن خلال اللجوء إلى القوة والتحالفات المحلية، سيطر البرتغاليون على التجارة، التي كان العرب والمسلمون قد احتكروها لعقود طويلة.
وبعد قرن من الزمان، تحالف ملك سيلان مع الهولنديين لطرد البرتغاليين، ثمَّ انتزع البريطانيون السيطرة قبل نهاية القرن الميلادي الثامن عشر بقليل. ولكن بحلول عام 1800م، بدأت نباتات القرفة الحقيقية السيلانية بالازدهار على نطاق تجاري في الهند، وكذلك في جافا، وهي جزء من إندونيسيا الآن، وفي جزر سيشل قبالة شواطئ شرق إفريقيا. ونظرًا لأن القرفة لم تعد نادرة فقد انخفضت قيمتها، وأصبحت من التوابل الرئيسة المتوفرة في المتاجر على نطاق عالمي.
حصادُ القرفة
يحدث الحصاد مرتين خلال العام، وذلك بعد الموسمين الكبير والصغير للرياح في سريلانكا، حيث تعمل الرطوبة المرتفعة على تسهيل الإنتاج. حينئذ، تُقطع أغصان القرفة التي يكون سُمكها بمقدار معصم اليد، ليقوم العمال المهرة بتقليمها، وكشط القشرة الخارجية.
بعد ذلك، تُستخدم سكاكين حادة في تفكيك وإزالة القشرة الداخلية الرقيقة، التي لا يزيد سُمكها عن نصف مليمتر في كثير من الأحيان. وتُوضع اللفافات الرقيقة بعضها داخل بعض لتشكل أعوادًا كثيفة تشبه السيجار، ثُمَّ تُجفف وتُفرز وتُقطع إلى أطوال محددة، كما تُطحن في بعض الأحيان لتكون مسحوقًا. وسواءً أكانت على شكل أعواد أم مطحونة، فإن لها رائحة عطرية نفاذة، ونكهة دافئة شبيهة بالخشب تجمع ما بين الرقة والحدة، ولها مذاقٌ حلو.
وبينما تُستخدم القرفة في أوروبا وأمريكا كثيرًا في صنع قوالب الحلوى والبسكويت والحلويات والمشروبات الساخنة، يُضيف الطهاة في سريلانكا أعواد القرفة، التي يشيع استخدامها في المطبخ المحلي، إلى السمك بالكاري على سبيل المثال. وفي أماكن أخرى، كثيرًا ما تُستخدم لإضافة النكهة لأطباق شهية، مثل طاجن الضأن المغربي، أو الرز البخاري التركي، وكذلك في أطباق اللحم الشرق أوسطية، وفي مسحوق الكاري، وخليط بهارات الماسالا، وخليط البهارات الصينية الخمسة الرئيسة.
وما نجده غالبًا على رفوف المتاجر هذه الأيام ليس القرفة الحقيقية السريلانكية، بل نبات القرفة الصينية الشبيهة بها، الذي ينبت حاليًا في جنوب الصين، وفي أجزاء أخرى من جنوب آسيا، مثل لاوس وفيتنام. وإنتاج هذه القرفة أسهل وأرخص. ولحاؤها الداخلي أغمق وأكثر صلابة وكثافة، وأحيانًا يكون قاسيًا أو كثيفًا جدًا بحيث يصعب سحقه أو طحنه يدويًا باستخدام الهاون والمدقة.
لطالما كانت القرفة جزءًا رئيسًا من الهوية الثقافية لسريلانكا، لكنها اليوم واحدة من أكثر التوابل انتشارًا، وهي تشكِّل عنصرًا رئيسًا ضمن قائمة المواد التي يستخدمها جميع الطهاة.
منقول بتصرُّف من مجلة أرامكو وورلد، عدد يناير/فبراير 2021م، بقلم جيف كولر
الرسوم الفنية: لندا دلال سوايا