إضاءة

الإصلاح الفوضوي وعامل الوقت!

الإصلاح الفوضوي وعامل الوقت!

كلنا نلاحظ الزيادة المفاجئة في أعداد المصلين في المساجد عند دخول شهر رمضان المبارك من كل عام، ومسارعة الناس إلى عمل الخيرات، كقراءة القرآن وتقديم الصدقات، والحرص على صلاة التراويح والتهجّد وصلة الأرحام وغيرها من الطاعات. ومنا من يضع لنفسه قائمة طويلة من العادات السلوكية التي سيتركها، وأخرى يريد أن يتعوّد عليها لتكون جزءًا من شخصيته، وكأنه ينتظر هذا الشهر لـ «فرمتة» شخصيته!

وما نكاد نلج الثلث الأخير من رمضان حتى يقلَّ الزحام وتتثاقل الأرجل وتضَعُف الهمم وتفتر العزائم، ويبدأ السباق نحو الأسواق للاستعداد ليوم العيد. وما هي إلا أيام حتى ننسى شيئًا فشيئًا تلك العهود التي أخذناها على أنفسنا ونعود لما كنا عليه وكأن شيئًا لم يكن! 
ويأتي السؤال: لمَ كان هذا التغيّر المفاجئ نحو الطاعات والمسابقة إلى فعل الخيرات؟ ثم لِمَ كان هذا النكوص والتراخي السريع أيضًا؟ إنه بالتأكيد عائد لأسباب مختلفة. ولكني أرى أن من أهم تلك الأسباب هو «الفوضوية» في محاولة إصلاح الذات وتأهيلها وفعل الخيرات وعدم التخطيط لذلك.

يعرف أهل الرياضة من المهتمين والمتابعين أن اللاعب المحترف الذكي، وخصوصًا في كرة القدم، ليس من يتحرّك كثيرًا داخل المستطيل الأخضر؛ بل من يعرف كيف يتحرك، ويستطيع أن يوزع جهده وطاقته على مدار الشوطين ويتعاطى مع لياقته باحتراف - وخصوصًا من كان عائدًا بعد انقطاع - ليوظفها بشكل فاعل أثناء المباراة.

أما من يتحرك بعشوائية وتخبط ليلحق بالكرة، دون أن يأخذ بعين الاعتبار مستوى لياقته أو خطة اللعب التي ألزمه المدرب بها، فهو لا يسلم غالبًا من الإصابة التي تحرمه من مواصلة اللعب، أو على أقل تقدير، يخسر مخزونه اللياقي في بداية المباراة فلا ينتفع منه فريقه في ما بقي من الوقت. 
ضربتُ هذا المثال لتقريب الصورة فقط، فالواحد منّا ينبغي أن يخطط - قبل رمضان- كيف يقبل على الطاعات أثناء شهر الصوم، وكيف يوظف هذا الإقبال ويستغل هذه الأجواء في عملية الإصلاح والترميم التي ينوي خوضها خلال «الدورة التدريبية»، التي تستمر ثلاثين يومًا.

إننا أكثر الناس دراية بخفايا نفوسنا ومواطن ضعفنا وقصورنا، وكذلك مواطن الخير فينا ونقاط قوتنا، بل نحن أعلم من غيرنا بحدود «لياقتنا» وقدرتنا على التغيير. لذلك فإني أرى أن «الوعي بالذات» هو طوق النجاة، وسر النجاح في عملية التصحيح. وعلى الواحد منّا أن يكون ذكيًا في تعامله مع ذاته، خصوصًا إذا أراد تهذيبها وتقويمها وتدريبها؛ فإن النفس تملُّ سريعًا وتنزع إلى ما كانت تألفه من الطباع والممارسات.

وعلينا أن نؤمن كذلك بـ «الوقت» كعنصر مهم في مسألة التغيير والإصلاح. فليس من الواقعية في شيء اعتقادنا أننا نستطيع إحداث تغيير جذري بين عشية وضحاها، وأننا سننسلخ من طبائعنا وعاداتنا السيئة بمجرد أننا قررنا ذلك. إن الإصلاح والتغيير على المستوى الفردي يحتاج إلى وقت كافٍ ليتجذّر في النفوس. فلا تعتقد لوهلة أنك قادر على «إعادة خلق نفسك» من جديد في لحظة! بل إنك تحتاج إلى وقت طويل وتعامل ذكي وحذر في الوقت نفسه للوصول إلى مبتغاك في إحداث «انقلابٍ إصلاحي» يعيد تشكيلك من جديد.

ولا تتعجل النتائج أبدًا! بل أعط التغيير وقته، وتحرك في «خطتك الإصلاحية» على مهل، حتى لا تكون كالمُنبتِّ الذي لا أرضًا قَطعَ ولا ظهرًا أبقى.
وقِسْ على ذلك، محاولات الإصلاح والتغيير على مستوى المجتمعات أو المنظمات، فإنه لابد لها من التخطيط الدقيق والعمل الدؤوب، وأن تأخذ حقها من الوقت لتترسخ وتصبح جزءًا من ثقافة المجتمع أو المنظومة.

همسة:
«كل الناس يفكرون في تغيير العالم، لكن ليس منهم من يفكر في تغيير نفسه».

 

 

متعب القحطاني: مدير قسم النشر.
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.
Photo

You are currently using an older browser. Please note that using a more modern browser such as Microsoft Edge might improve the user experience. Download Microsoft Edge