في شهر يناير من عام 1879م، وصلت آن بلانت، حفيدة الشاعر واللورد الإنجليزي، جورج بايرون، مع زوجها ويلفريد إلى واحة جُبَّة، بعد رحلت تطلَّبت قطع أكثر من ثلثي الطريق عبر صحراء النفود الكبير.
ففي طريقهما إلى مدينة حائل، توقف الزوجان عند هذه المحطة طلبًا للراحة، وكانت بلانت مهتمة بشراء خيول عربية، فيما كان ويلفريد يبحث عن عينات من النقوش القديمة المنحوتة على النتوءات الحجرية.
كان الاثنان من بين أوائل الغربيين الذين شاهدوا النحوت الصخرية في جُبَّة قبل أن تحظى بشهرتها الحالية. وقد علَّقت بلانت على المكان وما يحتويه من مجموعة غنية من آثار الفن القديم، قائلة: "جُبَّة هي إحدى أكثر الأماكن إثارة للفضول في العالم، وفي رأيي أنها من أجمل الأماكن كذلك."
لم تُجاوز آن بقولها كبد الحقيقة؛ ففي هذا المتحف المفتوح في الهواء الطلق، نحتت آلاف السنين حكاياتها على وجوه الصخر. وفي كل خطوة لنا هناك، كانت تأسر أعيننا صور وكتابات ورموز جديدة، لتعيدنا تلك الثروة الفنية الهائلة إلى زمن سحيق، تداخلت فيه حقب وحضارات مختلفة تاركة بصماتها في أرجاء المكان.
آثارٌ عريقة وأهمية بالغة
واليوم، تبدو جُبَّة واحة صغيرة هادئة، في موقعها على بُعد 90 كيلومترًا شمال مدينة حائل، لكنها أيضًا أشهر موقع للفنون الصخرية في المملكة. وهذه الواحة هي بقايا من بحيرة قديمة كانت تزخر فيما مضى بالنباتات والحياة البرية، وبالبشر أيضًا، في حين يُحيطها الآن بحرٌ من الرمل المتلاطم في صحراء النفود، حيث تعبث الرياح الموسمية بملامحه الصفراء الباهتة.
وفي الوقت الراهن، أقامت وزارة السياحة سياجًا حول مجموعة من آثار الفن الصخري والنقوشات التي تعود إلى آلاف السنين عند سفح جبل أم سنمان في جُبَّة، حيث يعود تاريخ بعضها إلى 10 آلاف عام، معلنة بذلك إياه موقعًا أثريًا.
وعلى عكس اللوحات والنقوش الأخرى التي تعود إلى العصر الحجري الحديث في أجزاء أخرى من العالم، يتميَّز الفن الصخري في جُبَّة بالنحوت العميقة، التي تعرض صورًا بارزة للغاية، لا تزال تحتفظ بملامحها الأصلية بشكل ملحوظ.
وتظهر في النقوش صور لرجال ونساء، تُعطي لمحة عن الملابس التي كان الناس يرتدونها في الماضي، والطريقة التي كانوا يصفِّفون بها شعورهم. كما تظهر في هذه الآثار الفنية حيوانات ومشاهد صيد، وأسلحة من قبيل الأقواس والسهام والعصيِّ والرماح.
إلى جانب ذلك، تبيِّن جوانب من هذه المشاهد أوجه تشابه مع الفن الصخري في شمال إفريقيا، في دول كالجزائر وليبيا ومصر. وفي مقالة نُشرت في مجلة (أرامكو وورلد) عام 2002م، يقول عالم الآثار، جوريس زارينس، الذي عمل في منطقة جُبَّة لمدة 20 عامًا: "إذا قمنا بمقارنة دقيقة بين موقع جُبَّة وغيره من المواقع الأثرية في الجزيرة العربية وشمالها، من حيث مدى تركُّز آثار الفن الصخري وأهميتها، نجد أن جُبَّة هي الموقع الأول أو الثاني على مستوى المنطقة بأكملها؛ إنها تنافس أي موقع من هذا القبيل في شمال إفريقيا."
وفي هذه المنطقة النائية المنعزلة، التي لا تكاد تبوح بأسرارها، وحيث تُحيط رمال الصحراء الحمراء بجميع الجهات، تبرز نتوءات صخرية تُبهر الزائر بسحر نقوشها الصخرية الكثيرة، والمحفورة بعدة أساليب، حيث استُخدمت فيها المطارق الحجرية البسيطة؛ إنها تعبيرات مذهلة للأبصار تروي عبقرية الإنسان المُبدع في حقب التاريخ الماضية.
الملك.. والعربة ذات الحصانين
وتستضيف جُبَّة اثنتين من أكثر المنحوتات الرمزية في المملكة. الأولى منهما لرجل مصوَّر بهيئة السُلطة، يرتدي ملابس وحليَّ النبلاء، ويبدو في مكانة مهيمنة على مرؤوسيه، مما يمكن تفسيره على أنه أحد الملوك القُدامى. أما الثانية، فتصوِّر عربة يجرها حصانان.
ولا تنتمي آثار جُبَّة الصخرية الفنية إلى عصر واحد أو حضارة واحدة، فبناءً على الدراسات الأثرية، مرَّت جُبَّة بثلاثة عصور مختلفة، هي: العصر الحديث، وعصر الثموديين، والفترة المتأخرة من عصر ما قبل التاريخ.
وتتكوَّن النقوش الصخرية الحديثة من نقوش غامضة لنصوص عربية حُفرت بجسم معدني. وغالبًا ما يوضح النص بالتفصيل اسم شخص ما، مع ذكر تاريخ يعود إلى القرن الهجري الخامس عشر، وقد كُتبت الكلمات خلال 30 عامًا مضت. لكن بعض النقوش العربية غير مؤرخة، وقد نُقشت باستخدام حجر آخر، مما يشير إلى أنها تعود إلى أزمنة أقدم. ويمكن أيضًا مشاهدة صور لراكبي الجِمال، أو مشاهد لمعارك مع أشخاص يستخدمون الرماح للقتال على الخيول.
النعام والكلاب والوعل
ويتكوَّن الفن الصخري الثمودي بشكل رئيس من النقوش البارزة، وتهيمن عليه نقوش وصور الإبل. وترتبط غالبية صور الإبل المنقوشة بنصوص تحدِّد صاحب الحيوان. وغالبًا ما تظهر النصوص مكتوبة بشكل عمودي، لكن عددًا قليلًا منها كُتب بشكل أفقي أيضًا. أما الصور الأخرى فهي لحيوانات النعام والكلاب والوعل، بالإضافة إلى النخيل، التي ربما أشارت إلى معرفة تلك الشعوب بالزراعة.
وترى بعض الدراسات الأثرية أن المجتمع الثمودي كان رعويًا رحالًا، حيث تنتقل فيه الحيوانات بشكل منتظم بين المراعي. ويُستدل من ارتباط الصور بالنصوص على أن أولئك الأشخاص ربما كانوا على معرفة بالقراءة والكتابة، ويُعزى ذلك على الأرجح إلى اتصالهم بالتجار.
آثار ما قبل التاريخ
وخلال عصر ما قبل التاريخ، كان أسلوب النقوش الصخرية محدودًا بمهارة الحفارين وصعوبة الأسطح الصخرية، مما جعل التعرُّف على أنواع الحيوانات المصوَّرة أمرًا صعبًا.
ومعظم الرسوم التي تم تحديدها تشير إلى حيوان الوعل، ذي القرون الضخمة المعطوفة إلى الخلف واللحية والفراء المخطط. كما تُصوِّر الرسوم عديدًا من الماشية ورؤوسها مائلة إلى أحد الجانبين، بحيث يمكن رؤية قرونها وآذانها، فيما أُبرزت الحمير البرية بما يشبه الأذنين القصيرتين المواجهتين للأمام.
أمَّا الأشخاص البشرية المرسومة، التي تمثِّل إنسان عصور ما قبل التاريخ، فتميل قاماتها إلى الطول، وهي تُشير إلى الذكور، الذين يبدون كما لو أنهم يرتدون أُزُرًا من العشب، وبعض أنواع أغطية الرأس. ويظهر في أحد الرسومات شخصان يستخدمان أدوات معقوفة، فيما يحمل شخص آخر قوسًا وسهمًا.
على قائمة التراث العالمي
وضمن أكبر ملجأ صخري هناك، في كهف صغير يقع إلى الخلف، يوجد نوع رابع من الفن الصخري المطلي بالأحمر، وهو يتألف من ثلاثة حيوانات من فصيلة البقريات، أحدها ربما كان لحيوان الأُرخُص، وهو ثور كبير الحجم تعرَّض للانقراض. ويظهر اللون الأحمر في الرسوم على درجتين مختلفتين: الأحمر البني الذي رُسمت به الحيوانات، والأحمر المائل للأرجواني الذي رُسمت به المربعات والنقط.
وقد أُعلنت منطقة جُبَّة الأثرية موقعًا تراثيًا عالميًا من قبل منظمة اليونسكو، حيث تكمن أهميته في شهادته على مجتمع بشري اختفى منذ أمد بعيد، تاركًا وراءه سجلًا تفصيليًا استثنائيًا يُثبت أنه كان في يوم ما على قيد الحياة.