الأمومة ليست تجربة حياتيّة اعتيادية، بل هي نقطة تحوُّل في حياة الأسرة ككُل وحياة المرأة بشكل خاص. يرتبط وقت الأم بإشباع حاجات طفلها الأساس، فتجد نفسها في سلسلة متواصلة من إنجاز تلك المهام، وفي الغالب يمضي الوقت قبل إدراكها ذلك! لهذا من السهل أن تشعر بأنها حبيسة في عالم لوحدها، فتسقط في براثن الكآبة. هذا عدا عن أزمة الهوية التي تعاني منها بسبب نسيانها ما كانت عليه ذاتها وحياتها قبل مسؤوليات الأمومة. كل هذا ناتج عن ذوبان ذاتها في ذات طفلها بسبب اعتماده عليها في كل شؤونه وحاجاته. إلا أن الحدود بينهما تبدأ في الارتسام كلما كبر الطفل وبدأ في الاستقلال بنفسه.
تبقى للأمومة تحديات يصعب حصرها في كل الأزمان والبلدان وإن اختلفت في العصر الراهن. فالمجتمعات الحديثة التي ترسّختْ فيها قيم المنظومة الفكرية الرأسمالية لا تعطي أهمية لما يُنجَز بعيدًا عن منحى الفردانيّة والإنجاز الماديّ البعيد عن تحقيق معنى الوجود الإنساني. كما أن نهوض الحركات النسوية أسهم في تغيير النظرة المجتمعيّة للأم المتفرغّة، فباتت نظرة دونية في أسوأ الأحوال ونظرة شفقة في أحسنها. مما جعل من السهولة بمكان أن تسقط الأم المتفرِّغة في فخّ الشعور باللافائدة واللاجدوى. ولأن هذه المجتمعات تقيس النجاح والإنتاجية بمعايير المنظومة الرأسمالية، فإنها بشكل لا واعٍ تربط مهمة رعاية الأطفال بالبطالة. فتُحمِّل الأم نفسها ما لا تطيق في محاولاتها المستمرة لإثبات أنها أكثر من مجرد أم مُتفرِّغة لتربية أطفالها! وكأنها تنفي عن نفسها تُهمة وتُفنِّد- لنفسها قبل الآخرين- الأسباب التي جعلتها تقبل بالتفرّغ الكامل!
لاشك أن تربية الأطفال مهمة شاقة لأنها غير مُنقطِعة ولأنها تنطوي على أبعاد عديدة؛ وجودية ونفسية وجسدية واجتماعية. وهي إن كانت مسؤولية الأبوين بالشكل الأكبر، إلا أنها مهمة تشارُكيّة ومسؤولية مجتمعية تتوزَّع بين عدة أفراد على حسب ظروف الوالدين. قد يحتاج الوالدان إشراك أفراد الأسرة أو تضطرهما الظروف إلى إيكال بعض المهام إلى مربيّة متخصصة، وهذا لا يُنقِص من أبوّتهما ولا من شعورهما بالمسؤولية. لكن الأم التي تختار تكريس كل وقتها لرعاية أطفالها ليست عاطلة، كما أنها لا تحتاج تبرير ذلك لأحد. لا بأس أن تلعب الأم أدوارًا مختلفة بعيدة عن دورها كأم، لكن دور الأمومة وحده أكثر من كافٍ، وإن كان لا يعني قسْر دورها الحياتيّ المستقبليّ عليه.
إن تربية الأطفال ليست وصمة عار، كما إنها ليست إنكارًا للذات أو تخليًا عنها، بل هي أعظم مهمة بشريّة على الإطلاق. وهل هناك أعظم من تشكيل الحياة وكتابة قصتها على المسامات والجِباه! فحريٌّ بالأمهات القادرات على التفرّغ للتربية أن يشعرنَ بالفخر، لأنهنَّ شاهدات على تأسيس ذاكرة أطفالهنَّ، ولأنهنَّ ناحِتات الهياكل التي ستُزهر منها الحيوات الجديدة ولَبِنَات التغيير الحقيقي الذي سيكون.
* هبة البيتي، كاتبة وصحفية ومدوّنة سعودية.
زاوية إطلالة مخصصة لنشر مقالات الكتّاب من خارج أرامكو السعودية