يوشك الشتاء أن يرحل عنا، ينفث ما تبقى في رئتيه من برد، ويُلملم ما تبقى من غيمات في الأفق، مذعنًا لسنن الكون، تاركًا مكانه في صمت. أمَّا الربيع الطلق فيوشك أن يأتينا مختالًا ضاحكًا، حاملًا باقة من الورد والرياحين، ومعتمرًا قبعته الخضراء، ومتوشحًا برداء من السماء الصافية الدافئة. ولا شك أن هذا الأخير يعلم علم اليقين أن مقامه بيننا لن يطول، فأرضنا الجرداء لا تحفل به كثيرًا، وتكتم أنفاسه بالغبار إذا فاجأها بالريح، والصيف لا يكاد يطيق الصبر حتى يأتيه الدور!
لكل فصل من فصول العام سماته المميِّزة، التي تُطنب في وصفها نشرات الطقس أحيانًا، وتختصر أحيانًا أخرى، لكن ما يتعسَّر وصفه هو الكيفية التي يتصرَّف بها كلُّ فصل بمشاعر القلوب وأحاسيس النفس الإنسانية عميقة الأغوار.
عندما كُنت صغيرًا كان يُخيَّل إليَّ أن الجميع يحبُّ الشتاء مثلي، فهو الفصل الحنون الذي يترفَّق بجلودنا فلا يُرهقها بالحرارة القاتلة، ولا يستنزف من أبداننا نهرًا يتحدَّر فوق الجبين فلا يُسرُّ به أحد. ثمَّ هو الغيم والمطر، حيث تسبح الأرض وتغتسل الأرواح، وهو الليل الطويل، الذي تنشرح فيه النفوس بمجالسة الرفيق والتحلُّق حول النار ودفئها.
وماذا عسى أن يضير كلَّ ذلك، إذا كان معه مسٌّ من البرودة التي تدلفُ إلى العظم ويقشعرُّ لها الجلد؟! إنها سيئةٌ يغفرها دون ريب جمال الشتاء، أما الصيف القبيح فلا تكفِّر ذنوبه الكبيرة حتى العطلة الصيفية الطويلة!
أدركتُ عندما كبرت وتغرَّبت للدراسة في لندن، أنني كنت متطرفًا في حبِّي بعض التطرف. أتذكرُّ أني كنت مأخوذًا بنفحات البرد عندما خرجنا من المطار لأول مرة، وقد أوشك الليل أن ينتصف. لكن البرد طغى بعد ذلك واستبد، فالسماء هناك لا تكاد تعرف الشمس، والليل يتطاول حتى لا يكاد ينتهي. حتى المطر أصبح بعد أمد مُزعجًا، وهو يرشقنا دون كللٍ صباحًا ومساءً؛ لعلَّ السيَّاب كان مُحقًا بعض الشيء وهو يستوحي أناشيده الحزينة من المطر!
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أفرح بظهور الشمس بعد غيبة طويلة، وأخرج للاحتفال بها مع الخارجين من سكان مدينة الضباب، فها قد أقبل سيرك الضوء، والفرجة مجانية ولا تحتاج إلى قطع تذكرة.
لا أزال أحب الشتاء وبرده حتى اليوم، وأبتهج بقدومه مجدَّدًا كل عام، بل إني أشتاق أحيانًا إلى شتاء لندن الذي كان يُشعرني بالسأم والضجر، فأتخيَّل نفسي مرتعد الفرائص أمشي في الطرقات تحت المطر، وأستنشق الهواء البارد حتى تمتلئ رئتاي منه!
لكني أقدِّر اليوم جيدًا أن كثيرين يُحبون الصيف تمامًا مثلما أحب الشتاء، بل ربما أكثر، حتى في بلادنا هذه التي تكاد تسلخ فيها الشمس كلَّ شيء حي. عجيبٌ هذا الإنسان الذي لا تعرف أسباب انسياق مشاعره إلى الأشياء، فهو يوزِّع الحبَّ والكره جُزافًا حتى على الطقس!
أتساءل إن كان ميل الناس إلى فصل دون آخر ينشأ من مكان ما في ذاكرتهم البعيدة، حيث ترتبط السعادة في أذهانهم بهذا الفصل دون ذاك، أم أن البشر مثل الأشجار الموسمية، بعضهم يحييه الصيف ويميته الشتاء، وبعضهم يميته الصيف ويحييه الشتاء. ومن يدري، فلعلَّ فينا من هو مثل النخل، يُسعده الصيف بالرطب، ويُبهجه الشتاء بالتمر، ويظلُّ باسقًا مبتهجًا في جميع الفصول!
ترحب القافلة الأسبوعية بمشاركة الموظفين في الكتابة لزاوية إضاءة، وذلك لتعميم الفائدة من خلال ما يطرح فيها من أفكار متنوعة تعبّر عن آراء كتّابها.