في عصرنا الحالي، باتت غالبية البشرية تسكن في عالم حضري، بعدما انتقلت أعداد كبيرة من سكان الريف لتقطن في المدن. وبمرور الوقت، اكتسبت المدن ميزات تفوق تلك الخاصة بالريف. ففي عام 2008م، تجاوز العالم في توزع سكانه عتبة المناصفة (50-50) في العيش بين المدينة والريف، وذلك وفقًا لإدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وبحلول نهاية القرن، من المرجح أن تصبح النسبة العالمية من سكان الأرض تعيش في المناطق الحضرية 4 إلى 1 (أو 75-80 %)، وهذه النسبة هي التي تم الوصول إليها بالفعل في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وتم تجاوزها في أستراليا. ونظرًا لهذه التوقعات، ولأن مستقبلنا سيكون حضريًا بلا ريب، فليس من المستغرب أن يكون أدب الخيال العلمي قد خصص حيزًا كبيرًا من الموضوعات التي يتناولها للحديث عن مدن المستقبل.
مساحات حضرية تأثرت بالخيال العلمي
يقول الكاتب المسرحي البريطاني أوسكار وايلد إن “الحياة تقلَّد الفن بمراحل أكبر من أن يقلِّد الفن الحياة". وتنطبق هذه المقولة بالفعل على العلاقة بين الخيال العلمي وواقع الحياة. إذ أن الأفكار التي طرحتها قصص وأفلام الخيال العلمي كان لها صدىً قويًا في كيفية تشكيل مدننا المعاصرة. والأمثلة على ذلك عديدة، حيث يظهر في تصميمات منطقة بودونغ في مدينة شنغهاي التي تضم أعلى ناطحات سحاب في المدينة مثل “برج شنغهاي” و “برج لؤلؤة الشرق”، حيث يوجد إحساس واضح بأجواء فِلْم “بليد رانر” والتصاميم التي تجسد المدينة العمودية. كما أن الإحساس نفسه موجود أيضًا في مدينة ماكاو الصينية التي تتمتع بكل سحر وتألق مدينة لوس أنجلوس التي تم تصويرها في فِلْم ريدلي سكوت.
عندما تُمحى الحدود بين الواقع والخيال
وهناك مدن بدأت بالظهور منذ أوائل القرن الحادي والعشرين استطاعت محو الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ونجحت في تجسيد رؤى الخيال العلمي الخارقة، وحتى أنها تجاوزتها في بعض الأحيان في كثير من مميزاتها.
ولكن إن كانت هناك مدينة تمزج بين الخيال والحلم مع العلم والواقع وتؤسس لفلسفة خاصة لمدن المستقبل وتحمل معها كثيرًا من التفاؤل، فهي مدينة "نيوم" في المملكة. و "نيوم" هي المدينة الحلم الذي يتألف اسمها من مزيج يجمع بين الثقافة اليونانية القديمة التي لطالما كانت تحتفي بالذكاء والمعرفة والتطلعات العالمية للعالم العربي الحديث. إذ تندمج البادئة الكلامية اليونانية القديمة “NEO”، التي تعني جديد، والحرف الرابع “M” اختصارًا للمفردة العربية "مستقبل".
"ذا لاين" التطوير الحضري الذي كان حلمًا
وضمن منطقة نيوم وفي خطوة كبرى لتجسيد حلمه المستقبلي الجريء، أعلن مؤخرًا سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، رئيس مجلس إدارة شركة “نيوم”، عن إطلاق “ذا لاين”، المدينة المليونية البالغ طولها 170 كيلومترًا، والتي سيبدأ العمل على إنشائها في الربع الأول من العام الجاري 2021م.
أما الفكرة الرئيسة وراء هذا المشروع الضخم، فهي أنه حان الوقت لوضع الخط الفاصل، أو بالإنجليزية “ذا لاين”، بين التطوير الحضري الذي يتمحور حول البشر وذلك الذي لطالما تم تصميمه حول الحجر من ناحية أخرى.
فالمشروع هو استجابة مباشرة لبعض التحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجه البشرية اليوم، مثل البنى التحتية القديمة والتلوث وحركة المرور الكثيفة والازدحام البشري. فهذه المدينة العتيدة “ذا لاين” هي من دون سيارات ولا طرقات، وتحافظ على 95 في المئة من الطبيعة في منطقة نيوم شمال غربي المملكة. كما أنها مدينة للمشاة بالدرجة الأولى، لأن جميع الخدمات اليومية الأساسية مثل المدارس والعيادات الطبية والمرافق الترفيهية، فضلًا عن المساحات الخضراء تقع على بُعد خمس دقائق سيرًا على الأقدام من كل السكان. كما يمكن لهؤلاء أن يقطعوا طول خط المدينة في 20 دقيقة فقط.
وفي إعادة تعريف مفهوم التنقل هذا، يتم منح السكان الفرصة لاستعادة وقتهم وصحتهم ورفاهيتهم. ولعل هذه المدينة الطموحة هي من أهم الخطوات التي انتظرتها البشرية لوضع رفاهيتها في أولوية اهتمامات التصميم الحضري، وفي تسخير الذكاء الاصطناعي الذي كما يقول عنه مطوِّرو المشروع إنه “سيتعلم في “ذا لاين” باستمرار طرقًا تنبؤية لجعل الحياة أسهل".
*نشر في مجلة القافلة عدد يناير/ فبراير2021. بقلم مهى قمر الدين