«البورتريه» كلمة أتت من الفرنسية فعبرت كلَّ اللغات. في الأصل، كانت هذه المفردة تعني عملًا فنيًا يمثل هيئة شخص معيَّن. وللدلالة على اتساع العالم الذي يضمه فن البورتريه، يمكن لهذا الشخص أن يكون شاعرًا إغريقيًا، أو ملكًا من القرون الوسطى، أو كاتبًا أو ممثلة سينمائية من القرن العشرين، وما بين كل هؤلاء يمكننا أن نجد أباطرة الصين، وفراعنة مصر، وأطفال من إنجلترا، وسيّدات مجتمع من كل العصور، ورؤساء الدول المعاصرين، وحتى الفنانين أنفسهم الذين يصنعون هذه البورتريهات.
من مصر القديمة إلى الصين الإمبراطورية
تعود النواة الأولى لفن البورتريه إلى مصر الفرعونية في الألف الثالث قبل الميلاد. وكان الدافع إلى رسم البورتريه أو نحته هو المعتقد الديني والإيمان بالعودة إلى الحياة بعد الموت. ومن العينات الشهيرة التي وصلتنا التمثال النصفي الذي يمثل نفرتيتي، وقناع توت عنخ أمون.
وفي الألفية الثالثة قبل الميلاد، ظهرت في بلاد ما بين النهرين التماثيل البشرية الحجرية والخشبية والبرونزية، المشغولة بأسلوب بسيط ومختزل، وبتعبيرية حيادية، بهدف التوثيق للأحداث والشخصيات المهمة. لذا وُجدت كثير من رسوم الوجه والمنحوتات في المدافن. ولم تكن غاية الفن في ذلك الزمن، وفي أكثر من مكان في العالم، سوى مطابقة الشكل، لذا كانت تُنفَّذ بأسلوب مبسط بعيد عن العواطف والمشاعر والتعبير.
أما عند الإغريق فقد حضر البورتريه بقوة منذ الألف الأول قبل الميلاد، وكانت حريتهم في التعبير أوسع مما كان عليه الحال في مصر، فلم يبقَ البورتريه المنحوت غالبًا من الرخام، محصورًا على وجوه الملوك وأصحاب السلطات، وإنما شمل الفلاسفة والكتَّاب الكبار والشعراء. لكن البورتريه الإغريقي لم يتخطَّ طموح الشبه، إلا للذهاب صوب المثالية والزخرفة والحرفة العالية.
وعرفت الصين القديمة شيئًا من فن البورتريه، في رسم الإمبراطور على الأقل. ولكن كان من الممنوع بتاتًا على الشعب أن يرى صورة الإمبراطور، خشية تدنيسها من قبل كارهيه، أو استخدامها في أعمال السحر ضده.
عشية النهضة الأوروبية
خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وعند تدبير الزيجات بين النبلاء الأوروبيين، راجت صناعة ميداليات من شمع تمثِّل وجه الفتاة أو الشاب لإرسالها إلى ذوي الطرف الآخر بغية الحصول على الموافقة. ورغم أنه لم يصلنا أي شيء من هذه الميداليات لأنها كانت من شمع، فإن المؤرخين يؤكدون أنها كانت تتضمَّن حدًا كبيرًا من الشبه مع الأصل، مع لمسة طفيفة من التجميل لتتكلل المهمة بالنجاح.
وفي القرن الخامس عشر، كثر في إيطاليا وأوروبا الفنانون الذين صاروا يرسمون وجوه شخصيات بدقة فائقة. ويتأكد انشغالهم بمشابهة النموذج الواقعي من خلال رسم الوجه جانبيًا عند الروّاد، من أمثال باولو أوتشيلو وغيرلانديو وأندريا مانتينيا وجيوفاني وجينتيلي بيليني.
ولكن بسرعة اتجه الفنانون الكبار إلى رسم الوجه إما ملتفتًا ثلاثة أرباع الالتفاتة، أو وجهًا لوجه. وبلغت مشابهة الواقع حدود التصوير الفوتوغرافي والواقعية الدقيقة عند بعض الأساتذة، مثل أنطونيلو دا مسينا في إيطاليا، ويان فان إيك وروجير فان در فايدن في هولندا، وآلبرخت دورر في ألمانيا. ولكن ثَمَّة ما كان ينقص فن البورتريه ليبلغ ذروته، وليستحق مكانته فوق لوحات الطبيعة ولوحات الحياة اليومية وغيرها.
العصر الذهبي للبورتريه
في عام 1504م، أنهى ليوناردو دافنشي لوحته، الموناليزا، وأهداها إلى ملك فرنسا فرانسوا الأول. وهي اللوحة التي طالت شهرتها كل مَن يعرف شيئًا عن ألف باء الفن. وثَمَّة عوامل عديدة تضافرت في صناعة هذه الشهرة، ولكن العامل الأساس الذي يقف وراء استحقاقها لذلك هو أنها أول بورتريه «نفسي» في تاريخ الفن؛ فشخصية المرأة الحقيقية التي جلست أمام دافنشي غير محسومة تمامًا، حتى ليمكن القول إنها لم تعد مهمة. والمهم في اللوحة، إضافة إلى التقنية العالية، هو في تمثيل إنسان ذي أعماق نفسية يستحق الاحترام بحد ذاته، وذي جمال يستحق تثبيته ليبقى مرئيًا على الدوام.
كانت تحوُّلات اجتماعية عميقة تجري في أوروبا، وتتمثل في تزايد نفوذ الإقطاعيين المحليين واستقلاليتهم عن الكنيسة والسلطات السياسية المركزية. وأصبح حصول النبلاء على بورتريهات تمثلهم تعبيرًا عن المكانة الرفيعة. والأمر نفسه ينطبق على البرجوازية التي سحبت بساط النفوذ من تحت الإقطاع القديم بدءًا من القرن السابع عشر، وتوجت انتصارها بالثورة الفرنسية عام 1789م. وهكذا، من النادر أن نتحدث عن فنان لم يرسم بورتريهًا واحدًا مهما كان ميله العام أو اختصاصه. حتى إن عددًا من هؤلاء يدين بشهرته جملة وتفصيلًا إلى فن البورتريه الذي أتقنه، وشكَّل به مفصلًا في تاريخ الفن.
* نُشر في مجلة القافلة عدد يوليو/أغسطس 2020م.